إن يوماً في الثورة كألف سنة

06 فبراير 2021
+ الخط -

بطريقتها الخاصة، احتفلت الصحف الإسبانية الأكثر تجذّراً في ثقافة الانتقال الديمقراطي، والتي نشأت في ظل ذلك الانتقال، مثل الباييس والموندو وآبي ثي والبيريوديكو، بمرور عشر سنوات على الربيع العربي الذي انطلق في يناير/ كانون الثاني من عام 2010، ولم يكمل دورته حول الأرض العربية بعد، كما تدور الشمس حول الأرض. كانت العناوين التي اختارتها تلك الصحف للحديث عن الربيع العربي حزينة، كما لو أنها تتذكّر بدايات الدمقرطة العسيرة في إسبانيا الفرانكاوية خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن الفائت.

القضية الأبرز التي يمكن أن تكون مفتاحاً في تمييز العقلية الديمقراطية من نقيضها المتجبر أن هذه الصحف التي تنتمي إلى اليسار والوسط واليمين كانت لها الروح نفسها في معالجة موضوعة الربيع العربي الذي تخطفته جميع الأيادي، وتداعت عليه الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، إذ لا يوجد يمين متآمر على الديمقراطية والحرية إلا في بلداننا العربية، حيث يمكن لليمين أن يكون كل شيء تقريباً، وحيث يمكن لليسار أن يتحوّل إلى يمين اليمين، بعد أن يجرب الوسط.

النظام المصري يريد أن "يمحو من ذاكرة البلد" كلّ ما يمكن أن يذكّره بأن ثورة حصلت ذات يوم في بلاد الفراعنة

وفيما توقفت "الموندو" عند العقد الضائع من الربيع العربي (هكذا عنونت إحدى مقالاتها)، وتحدثت عن الحكم الخاطف في مصر للرئيس محمد مرسي الذي جاء بين ديكتاتوريتين، كتبت "الباييس" أن الماريشال عبد الفتاح السيسي "لا يريد أن يتذكّر الثورة"، وكتبت في جمل واضحة أن النظام المصري يريد أن "يمحو من ذاكرة البلد" كلّ ما يمكن أن يذكّره بأن ثورة حصلت ذات يوم في بلاد الفراعنة. بينما كتبت "البيريوديكو" عن "الربيع العربي خلف القضبان"، مشيرة إلى الإجهاض الذي تعرّض له حلم الثورة لدى المواطن العربي.

لماذا الصحف الإسبانية؟ لأن إسبانيا تشكل نموذجاً حياً للثورة الديمقراطية التي مشت بخطواتٍ وئيدةٍ، ولم تكتمل مسيرتُها بعد، وهي نموذج حي أيضاً لعمليات الإصلاح والتغيير التي لا تحصل دفعة واحدة، بل تأخذ وقتها، كما الباذنجان في المثل المغربي، ينضج على مهل. ومقارنة مع فرنسا على سبيل المثال، حيث تم نسيان الثورة تماماً بعد أكثر من عشرة أجيال، فإن إسبانيا لا يزال فيها الجيل الأول الذي صنع الثورة الديمقراطية، وهو الأكثر قدرةً على تمثل شعور العرب بالحسرة جرّاء إفشال نجاح الربيع العربي، إذ ما تزال حقبة الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو حاضرة في الذاكرة الإسبانية، وما تزال الثورة متتابعة، حيث تتم مناقشة الإرث الفرانكاوي كله، من نقل رفات فرانكو من وسط مدريد إلى مقبرة العائلة كرفات شخص عادي، إلى إعادة النظر في الثقافة الإسبانية كلها من أجل تجريدها من بقايا الاستبداد.

جرت ثورات الربيع العربي في بيئةٍ عربيةٍ تتطلع إلى الحفاظ على الاستبداد

بيد أن الصحافة الإسبانية التي تفاعلت مع ذكرى مرور عشر سنوات على الربيع العربي لم تغفل أمراً مهماً لنا، نحن العرب، أن الثورة الديمقراطية في إسبانيا جرت في بيئة أوروبية تتطلع إلى الحفاظ على الديمقراطية، بينما جرت ثورات الربيع العربي في بيئةٍ عربيةٍ كانت تتطلع إلى الحفاظ على الاستبداد. وتلك كانت واحدة من مفارقات ثورات الربيع العربي، تضاف إلى مفارقة أخرى، وهي أن جميع الثورات كانت تطرد صانعي الاستبداد إلى المنافي، بينما ثورات الربيع العربي قامت بما هو معاكس لهذه الحركة التاريخية، إذ أرسلت صانعي الثورة إلى المنافي، وأبقت على المستبدّين بالداخل.

قد يكون الدرس الأكبر والأساسي لثورات الربيع العربي، بعد عشر سنوات ضائعات، أن الثورات لا تتم بين ليلة وضحاها، بل لها هزّات تعبر سلسلة من الحركات الخفيفات المتواليات في الزمن والمكان، قد تستغرق وقتاً أطول مما هو متوقع، لأن مقاييس إنجاز الثورات وعمليات التغيير ليست المقاييس ذاتها التي نقيس بها الحوادث الأخرى، ففي جميع الثورات عبر التاريخ الإنساني كان يوم واحد يعد بآلاف الأيام، إذ الثورة منافية للاستعجال ونافية له. ومرّة كان الروائي والشاعر الفرنسي، فيكتور هوغو، يحضر محاضرة ألقاها صديق له عن الثورة الفرنسية، فذكر أنها قامت عام 1789، وفي نهاية المحاضرة قام مؤلف "هرناني" وسأل صديقه أمام جمهور عريض: لقد قلت إن الثورة قامت سنة 1789، لكنك لم تذكر اليوم والساعة؟ وبالطبع، كان هوغو يلقي في وجه صديقه بنقيض الأطروحة، فليست للثورات مواعيد محددة، وما يتعارف الناس على التأريخ به من الأعوام والأشهر ليس سوى محاولة لتسجيل اللحظة الهاربة، لكي يكون هناك تعارف على اليوم الذي تحتفل فيه الجماعة بالذكرى، حتى لا يأتي من "يمحو من ذاكرة البلد" سردية الثورة.

411EBE56-3D92-42A1-9A4C-B11BC6AB0E69
إدريس الكنبوري

كاتب وباحث أكاديمي من المغرب، من مؤلفاته "سلفي فرنسي في المغرب"، و"الإسلاميون بين الدين والسلطة .. مكر التاريخ وتيه السياسة".