إن كان هذا هو الانتصار.. فكيف تكون الهزيمة؟
لو كان تكرار مفردات النصر بعد التعرّض للمجازر يعيد الحياة إلى من قُتل، ويُعمّر ما تهدّم ويداوي الإصابات الجسدية والنفسية، لكان من يُحجم عن ممارسة هذه الحيلة اللغوية فاقداً للإنسانية. ولو أن تحويل الهزائم إلى انتصارات رمزية يؤلم فعلاً العقل الصهيوني ومؤسّساته، ويلجم آلته القاتلة ويحدّ على الأقل من إجرام منظومة الأبارتهايد، ويحسّن من شروط سعي الفلسطينيين إلى تحقيق حريتهم فوق أرضهم، لكان من لا يمعن في هواية اللعب على الكلمات وقلب المعاني متواطئاً مع قتلة الشعب الفلسطيني. أما وأن أهازيج الإنجازات الدائمة لا تفعل سوى تأجيل التفكير بأفضل سبل معركة الشعب الفلسطيني، فإنما وجب التوقف عن خلط الأمنيات مع الوقائع، والرغبات مع الحقائق، احتراماً لأنفسنا ولروايتنا ولأهالي ضحايا آلة القتل الإسرائيلية. لا انتصرنا في عدوان الـ56 ساعة على غزة ولا كبّدنا الاحتلال ما يوجعه. هذه حقيقة لا تعني أن الغزّيين استسلموا وأذعنوا لشروط إسرائيل، ولا تعني أنهم لم يصمدوا في سجنهم الكبير، لكنها تعني أنه اليوم لم يعد هناك أي أفق سياسي لأي شيء يحصل في فلسطين. القتل الإسرائيلي والاضطهاد والتنكيل صاروا سياسة مكتفية بذاتها. والردّ على العدوان يكتفي بكونه ردّ فعل لا يأتي بنتائج سياسية تحسّن موقع الفلسطينيين.
لا تنقص المشهد أسباب تحثّ على التشاؤم، لكن فلنمتنع عن تزويد التراجيديا بمؤثرات مفعولها يشبه ما تسببه القنابل الصوتية في أقصى حدّ.
انتصرنا؟ عدوان الـ56 ساعة لم تجد إسرائيل لتبريره سوى وصفه استباقياً. استباق لماذا؟ لتنفيذ حركة الجهاد الإسلامي تهديدات بالانتقام أطلقتها بعد اعتقال أحد مسؤوليها في الضفة الغربية الأسبوع الماضي، بسام السعدي. يمكن لإسرائيل إذاً أن تفعل ما تشاء، وغير مسموح للفلسطينيين بالتهديد حتى. قرّرت إسرائيل توقيت بدء عدوانها، وهي قرّرت موعد إنهائه. الإرهاب الإسرائيلي لم يكن يوماً قادراً على التفظيع بالفلسطينيين من دون أي حجّة، مثلما هو هذه الأيام، قتلاً وتهجيراً واعتقالاً واقتلاعاً لتراثهم وتاريخهم وثقافتهم ودينهم وزيتونهم.
في الماضي، كانت إسرائيل تعدّ العدة لعدوان، وتنتظر صاروخاً ما ينطلق من غزة فترتكب مجازرها بحجّة الردّ المؤلم على ذاك الصاروخ. هذه المرّة، بدا للإدارة الصهيونية أن الظروف مثالية لأنها غير مطالبة من أحد بأي تبرير. ستكون في طوْر "الدفاع عن نفسها" لو مهما فعلت.
انتصرنا؟ "وحدة الساحات" التي طالبت بها "الجهاد الإسلامي" ورفعتها شعاراً لردّها على عدوان "بزوغ الفجر" (كم هو حقير العقل الذي يخترع أسماء الحروب المقتبسة من أجمل عناصر الطبيعة؟)، كانت مجازاً في غير مكانه. هدوء ما وراء الخط الأخضر كان استثنائياً، كذلك حال الضفة والقدس. حتى صواريخ حركة حماس بقيت في المخازن. وفي ظل غياب أي أفق سياسي لأي شيء يحصل في فلسطين، حسناً فعلت "حماس" عندما حيّدت نفسها عن الحرب بعدما حيّدتها إسرائيل أولاً، فلو انضمت إلى "الجهاد" في إطلاق الصواريخ، لامتدّت الـ56 ساعة من القصف ربما إلى 56 يوماً، ولكان عدد الضحايا أضعاف الـ44 فلسطينياً الذين قتلتهم إسرائيل بين الجمعة والأحد، في مقابل صفر قتلى من الجانب الإسرائيلي.
لو كنّا انتصرنا وننتصر بالفعل منذ عقود، فما الذي نطلبه بالتحديد من العالم طالما أننا منتصرون؟ اتفاق وقف إطلاق النار جاء بعدما أنهت إسرائيل تصفية من أرادت تصفيتهم. لم تتعهّد إلا بالسماح بدخول البضائع والوقود إلى قطاع غزة بشروطها هي ومعاييرها هي، أي ما كان سارياً قبل حرب اليومين ونصف اليوم. لم ينصّ الاتفاق على إطلاق سراح خليل العواودة وبسام السعدي كما روى زياد النخالة. كان على يئير لبيد أن يقول لناخبيه قبل شهرين من الانتخابات إنه يجيد شن الحروب على الفلسطينيين مثل الآخرين من أسلافه، ونال علامة كاملة برتبة قاتل.
إذا كان ما نعيشه منذ عقود تتويجاً لانتصاراتٍ متتالية على إسرائيل، فكيف تكون الهزائم بالتحديد؟