إنجازات السياسة الخارجية القطرية 2023... الاستمرارية والتحدّيات

22 يناير 2024
+ الخط -

جاء أداء السياسة الخارجية القطرية في العام المنصرم (2023)، كاشفًا عن درجة مرتفعة من "الديناميكة والنشاط"، خصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى (7/10/2023)، التي مثّلت تطوراً إقليميّاً مفصليّاً، أدّى إلى إيجاد فرص وتحديات أمام السياسات العربية والإقليمية إجمالاً، على نحو أضفى مزيداً من التعقيد على هذه "المرحلة الانتقالية"، التي يمرُّ بها النظامان الإقليمي والدولي، والتي يتزايد فيها الغموض و"عدم اليقين"، سيما مع اقتراب الذكرى الثانية للحرب الروسية على أوكرانيا (24/2/2022)، واقتراب الولايات المتحدة من موعدها الانتخابي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

وفي إطار تحليل أداء السياسة الخارجية القطرية عام 2023، ثمّة خمسُ ملاحظات؛ أولاها استمرارية توجّهات هذه السياسة وخطوطها العامة، مع بروز قدرة "الأداة الدبلوماسية" على التعامل مع تشابك تداعيات المتغيرات الدولية والإقليمية، على نحو تجلّى في اتّساع نطاق الوساطات التي قامت بها الدوحة في خمسة ملفات إقليمية ودولية:

1- محاولات دولة قطر لحلّ الأزمة السودانية، بين الجيش وقوات الدعم السريع. 2- التوصل إلى اتفاق تبادل محتجزين بين الولايات المتحدة وإيران، ورفع الحظر عن أموال إيرانية كانت مجمّدة في كوريا الجنوبية. 3- استعادة أطفال أوكرانيين محتجزين لدى روسيا، وتوفير مأوى لهم في سفارة قطر في موسكو، لحين وصولهم إلى وجهتهم النهائية في بلادهم. 4- تخفيف حدة الأزمة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، والتوصل إلى تبادل عدد من السجناء بين البلدين، في إطار جهد دبلوماسي يهدف إلى إبرام مصالحة شاملة بينهما. 5- نجاح الدوحة بالتعاون مع واشنطن والقاهرة في إبرام "الهدنة الإنسانية" (24-30/11/2023) بين قوات الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، واستمرار مساعي قطر، بغية الوصول إلى وقف إطلاق النار في القطاع، وضمان إدخال المساعدات وإطلاق الرهائن، على الرغم من تعقيد المفاوضات وتحدّياتها، سيما بعد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري (2/1/2024)، كما جاء في تصريح رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني (7/1/2024).

تكامل وتناسق في أدوات تنفيذ السياسة

تتعلق الملاحظة الثانية بمحورية الأداة الدبلوماسية (كما يتّضح من نشاط كبار مسؤولي الدولة في الزيارات الخارجية، واستقبال الزائرين والمسؤولين الأجانب، وتكثيف العمل على الوساطات، وبذل الجهود الحميدة لتقريب مواقف أطراف الصراعات الإقليمية والدولية من بعضها)، ما يظهر ديناميكية دور وزارة الخارجية القطرية، (دور وزيرة الدولة للتعاون الدولي، لولوة الخاطر مثالاً)، وكذا استحداث آليات جديدة في الوزارة، تناسب الموقف مثل "غرفة العمليات القطرية الخاصة بمتابعة الهدنة في غزّة"، بالإضافة إلى تكامل أدوات تنفيذ السياسة الخارجية القطرية، وبروز أدوار الأدوات الاقتصادية والإنسانية والإغاثية والإعلامية والثقافية. ففي الملفّ السوداني مثلا، برز تعاون المؤسّسات القطرية (وزارة الدفاع، ووزارة الصحة العامة، وصندوق قطر للتنمية، وقطر الخيرية، والهلال الأحمر القطري)، في تدشين جسر جوي لإيصال المساعدات للشعب السوداني، وإجلاء آلاف الأشخاص، على نحو يذكّر بالأداء القطري، الذي شكّل منظومة متناغمة، إبان الانسحاب الأميركي/ الغربي من أفغانستان صيف 2021.

انطوت السياسة القطرية على درجة من "الرسالية"، ووضوح الرؤية، وتحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية التدهور الحاصل في غزّة والضفة الغربية

وهذا ما تكرّر بصورة أوضح في سياسة قطر تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، واضطلاع الدوحة بمهمّات متعددة أفضت إلى إبرام "الهدنة الإنسانية" (24-30/11/2023)، ما أبرز "التكامل والتناسق التام" في أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، وتجاوز منطق "الوساطة الإنسانية"، إلى تكريسها نشاطًا دبلوماسيًّا وسياسيًّا حثيثًا، يدعم قضية فلسطين وشعبها لنيل حقوقه المشروعة؛ إذ انطوت السياسة القطرية على درجة من "الرسالية"، ووضوح الرؤية، وتحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية التدهور الحاصل في قطاع غزة والضفة الغربية. كما سخَّرت دولة قطر كل "قوتها الناعمة" من أجل القضية الفلسطينية، على نحو ما كشفته محورية القضية في أجندة منتدى الدوحة (10-11/12/2023) وتصريح سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة، حسام زملط، إن الفلسطينيين يرون أن "قطر من أكثر الدول دعماً لهم ولقضيتهم العادلة، والتي هي قضية العرب الأولى، والتي تؤثّر على حالة السلم والاستقرار في المنطقة والعالم".

تتعلق الملاحظة الثالثة ببروز دور الأداة الإعلامية في التصدي لمحاولة الدعاية الصهيونية تضليل العالم وتجريد الفلسطينيين من "إنسانيتهم" و"حقهم في الحياة". وإضافة إلى "الإعلام العسكري" التابع لكتائب عز الدين القسام، فقد احتلت "التغطيات المستمرّة" على مدار الساعة لقناة الجزيرة وتلفزيون العربي وموقع (وصحيفة) العربي الجديد، صدارة المشهد الإعلامي، حتى غدا بعض المراسلين الصحافيين "أيقونة فلسطينية وعربية وعالمية" (وائل الدحدوح مدير مكتب الجزيرة في غزّة مثالًا)، سيما في ضوء الاستهداف الإسرائيلي المتعمّد للطواقم الصحافية بغية حجب/ تغييب "السردية الفلسطينية"، وإخفاء حجم جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال، لاعتقادها بقدرتها على الإفلات من العقاب والمساءلة، مثل كل مرّة.

دبلوماسية نشطة ومتوازنة

تتعلق الملاحظة الرابعة بتعزيز "نهج الانفتاح والتوازن" في سياسة قطر، وتكريسها أسلوب المبادرة وتعزيز التعاون والمصالحات الخليجية والعربية والإقليمية؛ إذ يبدو واضحاً نجاح الدوحة سيما بعد تنظيم مونديال 2022، في تعزيز صورة الدولة، وتأكيد مصداقيتها وقدراتها "قوةً ناعمة"، سواء على صعيد استضافة الأحداث الرياضية العالمية والإقليمية (بطولة كأس آسيا لكرة القدم 2023)، أم بوصفها مصدرًا موثوقًا للطاقة، أم لاعبًا إقليميًّا يستضيف الفعاليات والمؤتمرات والمنتديات الدولية (إكسبو الدوحة للبستنة 2/10/2023- 28/3/2024)، فضلاً عن الاضطلاع بأدوار الوساطة الدبلوماسية والإنسانية وتقديم الإغاثة العاجلة والمساعدات الاقتصادية والتنموية، استناداً إلى سياسة قطر الديناميكية، المرتكزة على اقتصادها وموقعها مركزًا للغاز والتجارة، فضلًا عن شراكاتها الاستراتيجية المتوازنة، على الصعيديْن الدولي والإقليمي.

 يُظهر أداء السياسة الخارجية القطرية نجاحها في استخدام أدوات "القوة الناعمة"، والتواصل الدؤوب مع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية

واستثماراً لنجاح الدوحة في كسر "الأجواء النمطية" في العلاقات العربية العربية، إبّان مونديال 2022، واصلت قطر سياسة التعاون والحوار، لتعزيز أجواء المصالحات الخليجية والعربية والإقليمية، لدعم أهل غزّة في محنتهم الراهنة، كما لوحظ من حراك أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني؛ إذ زار مصر والإمارات، قبيل انعقاد القمّة العربية الإسلامية في الرياض (11/11/2023)، وكذا من خطابه في افتتاح أعمال القمّة الخليجية الـ44 في الدوحة (5/12/2023)، وتأكيده أن "الصراع في فلسطين ليس صراعًا دينيًّا، ولا حربًا على الإرهاب، بل قضية شعبٍ يرزح تحت الاحتلال، قائلاً إن زمن الاستعمار قد ولّى، وإن الأمن غير ممكن من دون السلام الدائم، وكلاهما لا يتحقق بدون حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وتعهّده ببذل الجهود للتوصل إلى وقفٍ شاملٍ للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في كلّ الأراضي الفلسطينية؛ فالهدن المؤقتة ليست بديلًا لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ما يستوجب من مجلس الأمن القيام بمسؤولياته لإنهاء الحرب، وإجبار إسرائيل على العودة إلى المفاوضات".

جدلية الفرص والتحدّيات المستقبلية

تتعلق الملاحظة الأخيرة بالفرص والتحديات الراهنة أمام سياسة قطر الخارجية، سيما بعد بروز تأثير عامل المقاومة الفلسطينية في المعادلات العربية والإقليمية، على ثلاثة مستويات متداخلة؛ 1- تظهير الخلافات الأميركية الإسرائيلية، بشأن كيفية التعامل مع قطاع غزة بعد الحرب، ودفع التطبيع العربي والإقليمي مع دولة الاحتلال، نحو "السريّة" تجنبًا للحرج، (وربما إبطاء وتيرة التطبيع في بعض الحالات). 2- تأكيد صعوبة تجاهل قضية فلسطين، وفشل "الحل الإقليمي"/ "صفقة القرن"، على الرغم من استمرار محاولات واشنطن في "احتواء" تداعيات انفجار الملف الفلسطيني، سواء بالعودة إلى أفكار "حلّ الدولتين" (تجاوزته الأحداث منذ وقت طويل)، أم بابتكار "صيغة دولية/ إقليمية جديدة" لتهدئة الوضع الفلسطيني مجدّداً، و"احتواء" الآثار الكارثية التي خلّفها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (بالتوازي مع تصعيد جرائم قوات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية). 3- التزامن بين إنجاز المقاومة الفلسطينية واختراقها المعادلات الإسرائيلية/ الأميركية/ الغربية، بالتوازي مع "الاستعصاء الأوكراني" في ظل هذه "المرحلة الانتقالية"، التي يمرُّ بها النظامان الإقليمي والدولي، بسبب نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا (2022- 2023)، مضافاً إليها انفجار الملف الفلسطيني، وزيادة منسوب الخلافات الأميركية الإيرانية، وتصاعد الاحتكاكات سواء في جبهة لبنان، أم التصعيد في البحر الأحمر، عبر توجيه الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية، على مواقع للحوثيين في اليمن.

وعلى الرغم من عدم تحقيق العدوان الصهيوني على غزّة والضفة الغربية أيّاً من أهدافه المعلنة بعد أكثر من مائة يوم من "حرب الإبادة"، فلا شك أن التحدّي الإسرائيلي لكل دول المنطقة قد تضاعف أضعافًا، سواء بسبب تحكّم "غرائز الانتقام والقَبَليّة واللاعقلانية" في سلوك قوات الاحتلال بعد "طوفان الأقصى"، أم تهديد رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك) رونين بار باغتيال قادة حركة حماس في تركيا وقطر ولبنان، (بحسب ما جاء في تسجيل صوتي مُسرّب بثته هيئة البثّ الإسرائيلية "كان 11"، في 3/12/2023، أم عودة سياسة الاغتيالات وتصدير أزمات إسرائيل للإقليم، كما يظهر من ثلاثة أحداث متعاقبة؛ اغتيال مستشار الحرس الثوري في سورية، رضا موسوي (25/12/2023)، ثم اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري في بيروت (2/1/2024)، ثم انفجار كرمان في إيران (3/1/2024).

ثمة توسّع في نطاق الوساطات القطرية ونمو في مساحاتها

وإلى ذلك، يطرح احتمال عودة دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض، تحديّاً مركباً، لسببين؛ أحدهما احتمال تخريب مناخ "التهدئة الإقليمية"، ما يعني تضييق مساحات الحركة الدبلوماسية أمام قطر (وغيرها من الدول)، وعودة الصراعات لتهيمن على البيئتين الدولية والإقليمية، خصوصا في إقليم الشرق الأوسط. والآخر احتمال انفلات "الدور الإسرائيلي"، وربما زيادة الدعم الأميركي لأنظمة الثورات المضادة، في ضوء التوجهات المعروفة لترامب.

وإجمالاً لما تقدّم، يُظهر أداء السياسة الخارجية القطرية نجاحها في استخدام أدوات "القوة الناعمة"، والتواصل الدؤوب مع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المنخرطة في معادلات الصراع في إقليم الشرق الأوسط؛ إذ تمكّنت الدوحة من جعل نفسها "وسيطاً مقبولاً"، يحظى بتقديرٍ أميركي وغربي وأممي واضح، وإشادات متتالية بدورها، ناهيك عن تمتّعها بدرجةٍ عاليةٍ من القبول من كل الأطراف، ما يؤكّد ديناميكية السياسة القطرية، وطموح نخبتها الحاكمة، وحسُن قراءتها وتوظيفها متغيّرات البيئتيْن الدولية والإقليمية، لتوسيع هامش حركة السياسة الخارجية لدولة قطر، إذ غدت البلاد مقصداً لزيارة كبار المسؤولين الدوليين والإقليميين، بحثًا عن حلول ومبادرات للأزمات المتكرّرة في المنطقة.

باختصار، ثمّة استمرارية في سياسة قطر الخارجية في "حلحلة" الأزمات الإقليمية والدولية المعقدة، خصوصاً التي تؤثّر في أمن منطقة الخليج العربي، وفي إقليم الشرق الأوسط وفي الاستقرار الإقليمي عموماً، وثمة توسّع في نطاق الوساطات القطرية ونمو في مساحاتها. كما أن هناك تعددًا تكامليًّا في أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، على نحو يعكس المرونة في الوسائل، والثبات على "مبادئ/ منطلقات" السياسة، مع تعزيز الانفتاح على مختلف الأطراف المنخرطة في صراعات المنطقة، ما يكرّس سمات الوسيط "النشط والنزيه"، الذي يتمتّع بثقة كل الأطراف، على نحو يستوجب إعادة تعريف مفهوم "قوة الدول الصغيرة" (Small States)، في النظام الدولي، سيّما بعد نجاح الدوحة في اجتياز أزمة الحصار (2017- 2020)، وتنظيم مونديال 2022، وتعامل الوساطات القطرية مع عدة أزمات إقليمية لاحقة، على الرغم من التعقيدات الهائلة التي تحدُث باطراد متزايد، في إقليم الشرق الأوسط إجمالاً.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل