إلى المثقفين الفلسطينيين وتفكيك دولة الاحتلال

07 ديسمبر 2023
+ الخط -

أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى طاولات كل دوائر القرار في العالم، ولم يتأخّر أحد عن إعلان الموقف منها، وليس فقط رفض العدوان على غزّة، فهناك من يدعم العدوان بحجّة الدفاع عن النفس، رغم أن دولة الاحتلال في القانون الدولي لا يحقّ لها هذا الدفاع من أصله.

ولأن القضية استعيدت بكل هذه القوة، أدعو المثقّفين الفلسطينيين إلى إنشاء "سلطة ثقافية فلسطينية"، تعمل على إصدار البيانات الثقافية وإرسالها إلى مختلف الدوائر الفاعلة في العالم، السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية والدينية؛ وهذه مهمة راهنة للمثقّفين الفلسطينيين.

الدعوة هذه، لأن القضية الفلسطينية أصبحت مجدّداً القضية الأهم في العالم، وتُحدِثُ مواجهة ثقافية وإعلامية حادّة في مختلف أنحاء العالم بصددها؛ معها أو مع دولة الاحتلال، وإذ لا تستطيع السلطة الفلسطينية في رام الله القيام بذلك، وإذ حركة حماس محاصرة، بكل كوادرها، في الداخل والخارج، والنقد يتركز عليها، وليس فقط إثر عملية طوفان الأقصى، فإن لصوت المثقفين الفلسطينيين والمنتشرين في كل العالم أهمية قصوى في هذه اللحظة الفارقة؛ لحظة العدوان، الهادف، إلى اجتثاث ليس "حماس" فقط بل قطاع غزّة، وبعدها ستكون الضفة الغربية.

الدعوة، لأنّ كل المشاريع السياسية المطروحة من الإدارة الأميركية ومعها السبعة الكبار، إلى ما بعد الحرب، ومنذ الآن، من القماشة القديمة إياها، والفاشلة بامتياز، خيار الدولتين، وقوات دولية ومنطقة أمنية وعازلة في غزّة، وتهجير أهلها، وسواها، ولأنّ دولة العدو صهيونية و"ليهود العالم فقط" فهي تخطّط استراتيجياً، ولا تفكر إلّا بتهجير أهل الضفة الغربية وفلسطينيي الـ1948 إن نجحت في غزّة، وتخشى بشكل متزايدٍ بقاء الفلسطينيين، ديموغرافياً، وليس فقط قواهم السياسية، الساعية، نحو حلّ الدولة الواحدة، أو كل من يعمل منها نحو تفكيك دولة الاحتلال.

المثقف الفلسطيني، ومعه العربي والعالمي، يتحمّل مسؤولية كبرى عن إعادة طرح القضية الفلسطينية كأهم قضية عادلة

الدعوة لأنّ سياسات المحاور العربية (الاعتدال والمقاومة) والدول المحيطة بالمنطقة العربية (تركيا وإيران) تسعى كل منها نحو تهدئة الأوضاع في فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين، وضمن خيار الدولتين، الفاشلة كما ذكرنا؛ إن عملية طوفان الأقصى قطعت الطريق على الاتفاقيات الابراهيمية، وعلى الممرّ الهندي الرابط بين بعض دول الخليج ودولة الاحتلال، ومنها إلى أوروبا وبدءا بالهند. أوقفت هذه العملية كل تلك التطوّرات، ولأنّها كذلك، ولأسباب أخرى، اصطفّت الدول السبع، ومعها الهند، مع العدوان لإنهاء الوضع "الشاذّ والإرهابيين" في غزّة، أي لكي تتخلّص تلك الدول من أهل غزّة، وليس فقط من "حماس". وبالتالي، لا يجوز الركون مطلقاً للقول إن عملية تهجير أهل غزّة انتهت برفض مصر والأردن ومعهما الدول العربية، وحتى مع إعلان الإدارة الأميركية رفضها التهجير.

لم تبذل واشنطن جهداً لإيقاف العدوان، والشروط، التي تضعها، أخيرا، له هي للاستهلاك المحلي والعالمي. وبسبب تصاعد الانتقادات لتأييدها العدوان، وبروز جناح سياسي وازن في الحزب الديموقراطي، يرفض سياسة بايدن وإدارته، بينما الحقيقة، الإدارة الأميركية، ومعها الحكومتان، البريطانية والألمانية، خصوصا، وسواها، لا تزال تتمسّك بحق دولة الاحتلال في العدوان ورفض حقّ الفلسطينيين في تحرير بلادهم سواء في غزة أو في الضفة أو في الـ 48؛ فكل المشاريع المطروحة من قبلهم لا تعالج موضوع غزة أو خيار الدولتين القديم بأي صورةٍ، وبما يسمح برفع الحصار وتفكيك الاستيطان في الضفة والقدس، وهذه المشاريع تخدم مصالح تلك الدول في تعزيز دور الكيان الصهيوني، بوصفه قوّة عسكرية متقدّمة ضد شعوب المنطقة، وتحديداً العرب، وضد اليهود أيضاً.

المثقّف الفلسطيني هو الأدق في فهم قضيته. ولأنّ الأمر كذلك، عليه حمل ثقل القضية العادلة، وإيصال قضية تحرير بلاده إلى العالم، والدفاع عنها فيه، وعلى منابره، بلغة دقيقة ورصينة ونضالية بامتياز، وطبعاً بالتآزر مع المثقّفين اليهود الساعين بدورهم من أجل إقامة دولة واحدة وللجميع؛ دولة ديموقراطية علمانية.

القضية معقدة، سيما بوجود الانقسام الفلسطيني، وعدم ارتقاء كل من حركتي حماس وفتح بشكل خاص إلى مستوى الحدث

غزّة كاشفة بامتياز لحقيقة المواقف تجاهها، فأهلها من يُبادون، وهي ما تُدمّر؛ المشافي، البيوت، البنى التحتية، وتمَّ، وبعد قطع الكهرباء والطعام والماء والوقود عنها، منع وصولها عبر مصر، ولم تبذُل الأخيرة، ومعها الدول العربية والإسلامية، جهداً حقيقياً لفتح معبر رفح بشكل مستمرٍ، ولم يجدوا طريقة لمنع ضغوط دولة الاحتلال ومعها الدول المساندة لها لفتح المعبر، وأيضاً لم يستخدموا أوراقهم الضاغطة "قطع العلاقات مع الكيان، والتهديد بإيقاف تصدير النفط والغاز، والتلويح بإعلان الحرب" لمنع الدمار والمقتلة في غزّة، والأمر سيتكرّر في الضفة الغربية والـ 48؛ فدولة الاحتلال تعلن، من دون توقف، أنّها ساعية إلى دولة يهودية ولن تتوقف عن ذلك، والاستيطان في الضفة بمثابة إنذار للتهجير القادم، أو التحوّل إلى مواطنين من الدرجة العاشرة.

المثقف الفلسطيني، ومعه العربي والعالمي، يتحمّل مسؤولية كبرى عن إعادة طرح القضية الفلسطينية كأهم قضية عادلة، ومعها كل القضايا العربية الأخرى، كالانتقال الديمقراطي في سورية، وفي ليبيا واليمن بالتحديد، نظراً إلى الأزمات المهولة التي تتعمّق في هذه الدول. المهم، الآن، أن يجد المثقفون الفلسطينيون إطاراً جامعاً لنشاطاتهم، سيما أن مثقفين في العالم يعلنون تأييدهم دولة الاحتلال، وفي مقدمهم هابرماس ببيانٍ مناهضٍ للقضية الفلسطينية مع آخرين. إذاً، لا تكفي الإطلالات الإعلامية للمثقفين الفلسطينيين على أهميتها، ولا ما ينشرونه في الإعلامين، العربي والعالمي، بل يجب تشكيل جبهة عالمية من المثقفين الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً، ومن كل أنحاء العالم ثالثاً.

القضية معقّدة، سيما بوجود الانقسام الفلسطيني، وعدم ارتقاء كل من حركتي حماس وفتح بشكل خاص إلى مستوى الحدث، وغياب أيّة مبادراتٍ لطيّ الانقسام بينهما، وأقصد أن المخطط الصهيوني، وهو سابق لـ7 أكتوبر، هو تهجير أهل غزّة والضفة الغربية، ولاحقاً من بقي من عرب 48. القضية إذاً ليست هذه القوى وسواها، وهي قضيتهم أيضاً في آن واحد، وقضية كل الشعب الفلسطيني كذلك، ولأن الأمر على هذا النحو، يجب أن يسارع المثقفون الفلسطينيون إلى تشكيل الجبهة العالمية تلك.