إلغاء الدستور التونسي قطرة قطرة
توحي كلّ المؤشرات أنّ الرئيس التونسي، قيس سعيّد، يستعد لإلقاء كلمة "تاريخية"، كما يصفها مساندوه، يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي الذي يوافق الذكرى الحادية عشرة للثورة، وقد اختار مدينة "الشرارة الأولى"، على غرار ما كان يقول العقيد معمّر القذافي، مدينة سيدي بوزيد، لإعلان جملة من القرارات المنتظرة.
كان بيان مجموعة من سفراء الاتحاد الأوروبي مع سفيري الولايات المتحدة واليابان بليغاً، إذ ذكروا فيه أنّ "تونس تستعد لاتخاذ قرارات خلال أيام"، والمقصود بتونس طبعاً في اللغة الدبلوماسية، هرم السلطة، الرئيس سعيّد، الذي جمع في قبضته كلّ السلطات، وهي حالة فريدة لم تحدُث حتى مع زين العابدين بن علي القادم من خلفية عسكرية. دفعت تصريحات الرئيس المتشنّجة إلى تنشيط التخمينات، حتى ذهبت مذاهب شتى في ما يمكن أن يقدم عليه سعيّد يوم 17 الشهر الحالي.
كان اجتماع الرئيس سعيّد مع أساتذة في القانون الدستوري قبل أيام عاصفاً، وقد أقرّ بأنّه سيبعث لجنة ضيقة، ستنفتح لاحقاً على بعض ممن يحملون توجّهات مغايرة، مهمتها الأساسية صياغة دستور جديد. ولم يخلُ اللقاء من تهديد ووعيد للجميع، داعياً إلى محاكمة خصومه بما اقترفت أياديهم. والواضح أنّه يلمّح إلى حركة النهضة على خلفية "جرائم انتخابية" يصرّ الرئيس على أنّ الحركة تورّطت فيها، بل ذكر أنّ لديه الإثباتات والقرائن التي تدين خصمه هذا. ولا يبدو أنّ الرئيس يعنيه استقلال القضاء، بل له أن يصدر أحكامه بعدما تأكد من صحة القرائن. بل أنكر على القضاء أن يكون سلطة، مذكّراً القضاة الذي حضروا في جلسة أخرى بأنّ القضاء وظيفة اجتماعية. لا يرغب قيس سعيّد أن ينازعه أحد السلطة، حتى وإن كانت سلطة تشريعية أو قضائية أو غيرها من السلطات. مباشرةً، إثر هذه التصريحات، أصدر المجلس الأعلى للقضاء بياناً كان قد ردّ فيه بصرامة على الرئيس، متمسّكاً باستقلالية القضاء، وأنّه يستمدّ شرعيته من البناء الدستوري في تزامن مع إحياء تونس اليوم العالمي لحقوق الإنسان الذي ضبطه الباب الخامس من الدستور، كما أعلن أنّه بصدد رصد كلّ الانتهاكات التي شملت القضاة وتوثيقها.
لا ينكر القضاة، ولا هياكلهم النقابية، أهمية إصلاح القضاء، لكنّهم يرفضون رفضاً باتاً أن يأتي في هذا السياق الاستثنائي، أو من السلطة التنفيذية التي تحرّشت به
وأعلن القاضي الإداري السابق والمحامي حالياً، أحمد صواب، أنّ بداية الأسبوع الحالي ستشهد تحرّكاً ميدانياً قوياً، إذ يلتفّ المجتمع المدني، بالتنسيق مع أعضاء من المجلس الأعلى للقضاء، من أجل الدفاع عن استقلالية القضاء، ومنع أيّ محاولةٍ لاستهداف المجلس، وتنبيه السلطة السياسية من خطورة المسّ بالمجلس الذي قرر يوم الجمعة الفائت إبقاء جلسته في حالة انعقاد دائم لمتابعة أي مساس بضمانات استقلال القضاء وحسن سيره. لا ينكر القضاة، ولا هياكلهم النقابية، أهمية إصلاح القضاء، لكنّهم يرفضون رفضاً باتاً أن يأتي في هذا السياق الاستثنائي، أو من السلطة التنفيذية التي تحرّشت به.
سيكون الأسبوع المقبل محدّداً لتطورات الأمور في تونس. لكن يبدو أنّ خطاب الرئيس، وهو يجمع أعضاء مجلس الأمن القومي هادئ ومريح خالٍ من التشنج والتخوين، بل إنه تمنّى الشفاء لجرحى قيادات حركة النهضة على إثر الحريق الذي شبّ في مقرّها. استغرب الناس نعومة الخطاب، وقد اعتادوا برئيسهم يرغي ويزبد، إلى حد أنّ هناك من اعتبر مشهده أخيراً مناورةً من أجل تمرير مشروعه السياسي. بدأت الاستعدادات في مدينة سيدي بوزيد من أجل استقبال الرئيس، إحياءً لعيد الثورة، حيث سيلقي "خطاباً هاماً" لن يخرج، في اعتقاد الكاتب، عن إعلان إلغاء الدستور، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، والإعلان رسمياً عن تعيين لجنة من فقهاء القانون الدستوري، من أجل صياغة دستور، ثم عرضه على استفتاء شعبي عام، حتى يضفي عليه شيئاً من الشرعية.
سيتخلّص الرئيس من حزبٍ يحول دون تجسيد مشروعه القائم على رفض الديمقراطية التمثيلية، والذهاب إلى البناء القاعدي
يواجه اليوم الرئيس سعيّد الجميع: الاتحاد العام التونسي للشغل، نقابات القضاء ومؤسساته العليا، المجتمع المدني وطيفاً واسعاً من الأحزاب، غير أنّ الرجل يتمادى في تجسيد مشروعه، أي تفكيك ما يسميها المنظومة السابقة، متناسياً أنّه نتاجها، والإجهاز على دستور الثورة قطرة قطرة، فبعدما أعلن أنّه حافظ على بابين أولين منه، أعلن أخيراً، وحين اجتمع بأساتذةٍ في القانون الدستوري موالين له، أنّ دستور 2014 "ثبت أنّه لم يعد صالحاً، ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنّه لا شرعية له". والغريب أنّ الرئيس لا يقدّم حججاً عن عطالة الدستور، ولا أيضاً قرائن عن فقدان مشروعيته، غير أنّه، في قرارة نفسه، لا يعتقد أنّه يحتاج إلى تقديم حجج على الأحكام الجزافية التي يطلقها، فهو يدرك، في قرارة نفسه، أنّه لا يفعل أي شيء إلّا لحكمة لا يعلمها إلّا هو.
تكتمل أركان الانقلاب الناعم خلال أيام، وقد كان الرئيس يردّد دوماً أنّه قام "بحركته التصحيحية" تلك، من أجل التصدّي للخطر الداهم، وهي الباب الذي ظلّ مفتوحاً في الفصل الـ 80 من الدستور، ليتسلّل منه الانقلاب متنكّراً، غير أنّه، بعد مضيّ ما يناهز خمسة أشهر، تبيّن أنّ الخطر الدائم على التسليم بوجوده لم يكن، في الحقيقة، سوى تعلّةٍ للإجهاز على دستورٍ، لم يكن الرئيس قد قبل به منذ التصديق عليه، وها هو يجهز عليه، لأنّه يحدّ من سلطاته، وهو الذي لا يرى نفسه إلّا حاكماً أوحد. سيتخلّص الرئيس من حزبٍ يحول دون تجسيد مشروعه القائم على رفض الديمقراطية التمثيلية، والذهاب إلى البناء القاعدي، حيث لا دور للأحزاب، ولا للأجسام الوسيطة في الحياة السياسية أصلاً.