إشكالية المبادرات السياسية الليبية
لم تكن هناك مبادرة حقيقية وفاعلة منذ بدأت الأزمة في ليبيا لحل الإشكال والاتجاه بالدولة نحو الاستقرار، وإنهاء المراحل الانتقالية المتتالية، وإن وُجدت مبادرات استُقبلت غالبا بين قبول ورفض بين أبناء المجتمع الليبي ككل أولاً، وبين النخب والقوى السياسية الفاعلة في الأرض ثانياً، ولعلّ أبرز شاهد ومثال على ذلك اتفاق الصخيرات الذي كان له أثر كبير على الحياة السياسية في البلاد بين القبول والرفض، وإن كان واقعا بعد ذلك، الأمر الذي ترتّب عليه مزيد من الاحتقان وعدم الثقة في المبادرات بين القوى السياسية الموجودة في البلاد بعضها ببعض. وبالتالي، نرى أن أغلب المبادرات التي تستجيب لها الأجسام المتصارعة في البلاد بنواة خارجية، وإنْ كان لها شيء من الفعل الداخلي. وبالتالي، لن تكون نتائجها خارجة عن مقدّماتها، باعتبار أن المقدّمات تقود إلى النتائج، وذلك كله مبني على المصالح، ليس حصرا في الأطراف الداخلية، بل حتى الإقليمية منها والدولية. وبالتالي، لن يكون نجاح هذه المبادرة أو تلك المبادرة بالقوة والاستمرار، إن كانت نابعة من الداخل والعمق الليبي والقاعدة الشعبية له.
في الحالة الليبية اليوم، هناك عدّة مبادرات تلوح بشأن الاحتقان الحاصل في السلطة التنفيذية، والذي مردّه إلى السلطة التشريعية في كل الأحوال. وبالتالي، لا بد أن تكون المبادرة الحقيقية حول السلطة التشريعية في البلاد، قبل أن تكون موجهّة نحو التنفيذية، لعدة أسباب، لعل أبرزها يتمركز في الانسداد السياسي التشريعي وتكلّسه، سنوات متعدّدة، قبل أن يكون الخلل في السلطة التنفيذية. وكذلك عدم قدرتها على إنتاج قوانين انتخابية حقيقية تمكّن البلاد من الانتقال السلس بين السلطات التشريعية فيها.
أغلب المبادرات التي تستجيب لها الأجسام المتصارعة في البلاد بنواة خارجية، وإنْ كان لها شيء من الفعل الداخلي
يتجّه كثيرون، اليوم، نحو هذا المنحى بإيجاد مبادرة حقيقية لتمكين القاعدة الشعبية من اختيار السلطة التشريعية لها، وتحقيق ما يصبو له أكثر من مليوني مواطن، غير أن أغلب هذه المبادرات تتركز على أن تكون القاعدة المنشئة لتجديد السلطة التشريعية عند الأجسام التشريعية التي فشلت سنوات متتالية في تجديد نفسها، ناهيك عن فشلها الذريع في أواخر العام الماضي في الاتفاق على قاعدة دستورية تسير عليها العملية الانتخابية في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، الأمر الذي ترتب على إثره هزّة في الاستقرار النسبي الذي كان في الشهور الأخيرة في البلاد. وبالتالي، الحديث عن مبادرة تكون بالخطوات والأطراف السابقة نفسها هو بمثابة العبث المتعمّد الذي لن تكون نتائجه مرضيةً ليس للشعب الليبي ونخبه فحسب؛ بل لن تكون واقعا ملموساً باعتبار أنها جرّبت من قبل، وكذلك تركيزها، في الغالب، على التفاوض حول مكاسب السلطة التنفيذية وحقائبها الوزارية قبل إيجاد خريطة طريق حقيقة وفاعلة، لتكوين سلطة تشريعية جديدة، يجب أن تكون حجر الأساس الذي تستند إليه السلطة التنفيذية الجديدة، وليس العكس.
كما أن هناك مبادرة حكومية تتجه إلى تجديد السلطة التشريعية (البرلمان) في البلاد، وتحقيق الانتخابات في أقرب الآجال، على أن تكون هذه إلى أقصى حد في منتصف هذه السنة. وهذه المبادرة، وإن كان لها داعموها، تحتاج غطاءً دستوريا يقوّيها ويحدّد معالمها، وإن كان هناك توجه إلى أن تكون على غرار قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام في 2012، أو قانون انتخاب البرلمان المعتمد في 2014، أو حتى مقترح قانون المشروع الانتخابي الصادر عن مجلس النواب الحالي في 2021. إلا أن هذا التوجه أو المبادرة تحتاج صيغة دستورية تدعمها على أقل تقدير من الدائرة الدستورية، إن تعذّر حصولها من البرلمان (الجسم التشريعي) والمجلس الأعلى للدولة المنقسمين على أنفسهم. ولن يتأتّى هذا، بحسب المعطيات الحالية، إلا إذا وجد إصرار شعبي وضغط نخبوي حقيقي على تفعيل الدائرة الدستورية، الأمر الذي يمكن معه ضبط الإيقاع التشريعي بما لا يُخالف القواعد الدستورية الحاكمة، وفي مقدمتها الإعلان الدستوري وتعديلاته، ومن ثم السير إلى إيجاد قوانين أو بدائل قانونية حقيقية تجري عليها الانتخابات التشريعية على أقل تقدير.