إسلام علوش .. القضاء الأجنبي والعدالة الانتقالية السورية
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
وسط نقاش حادّ بين مؤيد ومعارض ومتحفّظ على نهج الملاحقات القضائية التي تعمل عليها منظمات حقوقية سورية في أوروبا، نشرت عائلة الناطق السابق باسم جيش الإسلام، مجدي نعمه، المعروف باسم إسلام علّوش، صوراً له، وهو المحتجز في سجن فرنسي على ذمّة التحقيق في قضايا جنائية، يظهر فيها تعرّضه للعنف الجسدي، من خلال كدمات بادية على وجهه بوضوح. وغرّدت العائلة، عبر حساب خاص لها، على منصّة تويتر، بما معناه إنّ هذا غيضٌ من فيضِ ما لحق ابنها من ضيم. ثم ظهر المحامي الفرنسي، رافائيل كمبف، المكلّف بالدفاع عن الرجل، عبر تسجيل مرئي، وأكد الواقعة، وعللها بالعنف المستشري لجهاز الشرطة الذي يعاني منه المجتمع الفرنسي عامّة.
يتفاوت عنف أجهزة الشرطة والأمن من بلد إلى آخر. وفي فرنسا، حاولت السلطة التنفيذية، قبل أشهر، إعطاء الغطاء القانوني لهذا العنف، عندما قدّمت إلى البرلمان مشروع قانون يجرّم عمليات تصوير ضباط الشرطة وعناصرها في أثناء تأديتهم مهامهم، لكنها تراجعت عن المقترح، نتيجة احتجاجات شعبية كبيرة. وبكلّ تأكيد، لا يمكن إنكار وجود قضاء فرنسي عريق، أصدر قبل أيامٍ حكماً على الرئيس الفرنسي الأسبق، ساركوزي، بتهم فساد وتجاوز حدود السلطة. ما يعني أنّ وجود سلطات قضائية حيادية ومستقلة، تتمتّع بثقة عالية وطنية ودولية، يشكّل بلا ريب ملجأً من عسف السلطات التنفيذية وتجاوزاتها. من هنا، يجب مناقشة قضيّة الاعتداء التي تعرّض لها مجدي نعمه، مدخلا لمناقشة بعض ما يخصّ موضوع العدالة الانتقالية في سورية.
باختصار، يمكن أن يكون إسلام علوش (مجدي نعمه) قد قاوم عملية اعتقاله. وهذا وارد جداً، باعتبار أنّ ما رشح من معلومات أفاد بأنّ قوّة أمنيّة بلباس مدني هي من نفّذت هذا الاعتقال، ظناً منه أنها عملية اختطاف أو ما شابه. وقد أوضح محاميه، في تسجيله المذكور، أنّ الصورة المنشورة أخذت بعد اعتقاله مباشرة. في كل الأحوال، يبقى المجال متاحاً أمام مجدي نعمة، وأمام محاميه، للتقدّم بدعوى ضدّ عناصر الشرطة، لإثبات تجاوزهم حدود القانون، وللمطالبة بمحاسبتهم وبالتعويض عمّا لحقه من أضرار جسدية ومعنوية وأدبيّة.
لا يمكن حلّ المعضلة السورية في أروقة المحاكم، لأنّه حلّ سياسي، وبأدوات دولية ووطنية سورية
يحق للسوريين المقهورين من حجم الإجرام المرتكب ضدّهم خلال عشرة أعوام أن يتشاءموا عندما يشاهدون هذه الصور، كما أنّ من حقهم التشكيك بعدالة النظام القانوني الدولي، وبالعدالة الجنائية ذاتها، وبكل النظام الدولي العالمي الذي وقف يتفرّج عليهم، وهم يُسحقون ويطحنون ببثّ مباشر أمام شاشات التلفاز ووسائل التواصل، بكلّ حقد واستخفاف بأدنى القيم الأخلاقية والإنسانية. لكنّ الحديث عن العدالة في فرنسا أو ألمانيا أو أي بلد آخر يجب أن يراعي الفوارق الموضوعية بين ما هو ممكن ومُتاح قضائياً وقانونياً من جهة، وما هو مرغوب ومطلوب من السوريين من جهة ثانية.
لا يمكن حلّ المعضلة السورية في أروقة المحاكم، لأنّه حلّ سياسي، وبأدوات دولية ووطنية سورية. كذلك فإنّ العدالة في سورية لن تأتي عبر المحاكم الفرنسية والألمانية، ولا عن طريق المحكمة الجنائية الدولية أو أية محكمة دولية خاصّة. العدالة الانتقالية مسار طويل شائك ومعقّد، ويحتوي على مروحةٍ واسعة الطيف من الأدوات اللازمة لمعالجة آثار الانتهاكات الجسيمة والمتراكمة عبر سنوات الحكم العسكري، بدءًا من انقلاب حزب البعث عام 1963.
وتشكل الملاحقات الجنائيّة أحد أبرز الأدوات ذات النتائج الظاهرة مباشرة للعيان وأهمها، لكنّها غير كافية بطبيعتها لإنهاء الصراع وآثاره، فالملاحقات الجنائية محدودة الأثر دوماً ولأسباب مختلفة، فهي تتعامل مع الماضي، وما حصل به من جرائم أولاً، وهي تعتمد أدواتٍ غير مرنة ثانياً، لأنها مقيّدة بالقوانين الموضوعية والإجرائية وبوسائل الإثبات المحدّدة سلفاً، وهي غير مؤهلة للتعامل مع الحجم الهائل للجرائم المرتكبة، والتي تعجز عنها أكبر الأجهزة القضائية في العالم وأعرقها وأقواها ثالثاً، فالقضاء مخصّص بطبيعته للتعامل مع حالات إجرام فردية، وهذا محكومٌ بطبيعة المسؤولية الجنائية، فهي مسؤولية فردية لا جماعية، لأنّ كلّ فردٍ مسؤول عن أفعاله، وهذا مردّه الفلسفة الجنائية ذاتها القائمة على وجوب توفر الركن المعنوي في أي جرم، إلى جانب الركن المادي، والأول يقوم على عنصري العلم والإرادة، وكلاهما فردي لا يمكن بحثه بشكل جماعي. وتقف أسباب كثيرة أخرى عائقاً أمام إحداث الأثر المتوقّع من الملاحقات الجنائية، لعلّ أهمّها التمويل. وبعد ذلك ضرورة توفّر الكوادر المدرّبة المؤهلة للتعامل مع القضايا في جهازي القضاء والأمن، والبنى التحتية المتعلقة بالمحاكم والسجون ودور التوقيف، والبنى الفوقية المتعلقة بالأنظمة والقوانين.
يجب العمل على إصلاح مؤسسات الدولة التي شاركت، أو من المحتمل أن تشارك في الانتهاكات، أو التي كان من واجبها منع وقوع هذه الانتهاكات
ولو عرفنا أنّ العدالة الانتقالية بأشكالها المعروفة أنتجت أدواتٍ أخرى أثبتت فاعليّتها في البلدان التي طُبّقت فيها، لوجدنا كم هي التحدّيات كبيرة أمامنا، فمعالجة أسباب الانتهاكات الفظيعة ومناخاتها تقتضي التعامل مع المؤسسات القائمة عليها. من هنا، يجب العمل على إصلاح مؤسسات الدولة التي شاركت، أو من المحتمل أن تشارك في الانتهاكات، أو التي كان من واجبها منع وقوع هذه الانتهاكات. على سبيل المثال، يجب إصلاح بنى الجيش وقوات الشرطة وأجهزة المخابرات والأمن، ويجب إصلاح مؤسسات القضاء، ويجب تحرير الإعلام والصحافة، ويجب تدعيم قوى المجتمع المدني من نقابات وأحزاب وجمعيات واتحادات، لتتمكّن، مع الصحافة، من مراقبة أداء مؤسسات الدولة، ويجب إصلاح الأنظمة والقوانين المتحكّمة بهذا كلّه، لمنع إمكانية ارتكاب هذه الانتهاكات مستقبلاً.
إضافة إلى هذا، هناك تحدّيات هائلة تتمثل في تعويض الضحايا، وهذه بحدّ ذاتها بحاجة لتخطيط استراتيجي بعيد المدى للتعامل معها، فالأمر يحتاج معرفة من هم الضحايا أولاً، ثم تحديد تاريخ الانتهاكات التي يجب التعامل معها ثانياً، ثم المعايير التي يجب تطبيقها على هذا وذاك ثالثاً، ثم تحديد آليات التعويض رابعاً، وقبل ذلك كلّه تأمين التمويل اللازم لهذا الأمر.
الملاحقات الجنائية الجارية الآن في أوروبا، أو التي ستجري خارج سورية، ليست جزءًا من مسار العدالة الانتقالية السورية إطلاقاً
تصطدم برامج العدالة الانتقالية دوماً بأولويات أخرى، لا تقلّ عنها راهنية وأهمية، فتحقيق الاستقرار الأمني في الدول الخارجة من الصراعات والحروب والثورات أمرٌ لا بدّ منه، ثم تحقيق الاستقرار السياسي الذي لا يمكن بدونه تحقيق تنميةٍ مستدامةٍ وسلم أهلي مستقر، وتأتي عقبات النهوض الاقتصادي، بقطاعاته المختلفة، مثالا بارزا على التحدّيات الهائلة. وفي الحالة السورية، علينا التفكير مليّاً بالاحتلالات الأجنبية والمليشيات العسكرية من مختلف الجوانب وبضبط فوضى السلاح. وعلينا التفكير بالدمار الهائل الذي أوقعته آلة الحرب بالبنى التحتية، وفوق ذلك كله بالديون التي راكمها نظام الأسد على الدولة، والعقود التي وقّعها مع الروس والإيرانيين، لإمداده في حربه على السوريين.
يقود هذا كلّه إلى القول، بكلّ ثقة، إنّ الملاحقات الجنائية الجارية الآن في أوروبا، أو التي ستجري خارج سورية، ليست جزءًا من مسار العدالة الانتقالية السورية إطلاقاً، فالأخير لا يبدأ إلا في سورية، ومع عملية الانتقال السياسي من عهد الديكتاتورية إلى عهد الديمقراطية أو بعدها. ومهما حاولت حكومات الدول الغربية والمنظمات الدولية تضخيم آثار هذه الملاحقات والأحكام وتعظيمها، فإنها لن تحجب عنّا حقيقة الأمر أنّها من باب الاستثمار السياسي أولاً. وللتخفّف من وطأة تأنيب الضمير عن السكوت غير المبرّر عن هول المحرقة السورية المستمرّة منذ عشرة أعوام ثانياً. ولمحاولة تفادي شرعنة إعادة تأهيل جزّار العصر بلا منازع بأدوات قانونية ثالثاً. وفي النهاية، لا بدّ من التضامن مع مجدي نعمه، ومع أيّ إنسان يتعرّض للتعذيب أو العنف أو الإهانة، من السلطات الرسمية أو سلطات الأمر الواقع في أيّ مكان. ولا يتعارض هذا مع مبدأ وجوب محاكمة مرتكبي الانتهاكات أبداً، بل يتكامل معه، ومع مبدأ البراءة المفترض في كلّ متهم حتى تثبت إدانته بحكم قضائي مُبرم.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.