إسرائيل وتجارة الخوف و"العدو المشترك"
تتصاعد، منذ نهاية الحرب العالمية، قدرة "تجارة الخوف" على فتح بعض الأبواب المغلقة، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي تمارس إسرائيل، بمهارة، لعبة ديبلوماسية ربحت بإجادتها الكثير، وبخاصة في العلاقة مع عواصم لم تكن لديها حاجة ماسّة إلى تبادل المصالح مع إسرائيل. تتلخّص اللعبة في مغازلة مخاوف دول معينة من "عدو مشترك" حقيقي أو مختلق، وتعد التطورات الكبيرة التي طرأت على علاقة تل أبيب بكل من نيودلهي وبكين نموذجًا لنجاح إسرائيل في ممارسة هذه اللعبة. فبعد عقود طويلة من جمود العلاقات معهما، نشطت الديبلوماسية الإسرائيلية في إقناعهما بأنها تملك خبرة ناحجة في التعامل مع العدو المشترك الجديد للغرب، كما أراد بعضهم أن يصوّره، متمثلًا في "التطرّف الإسلامي".
وقد شيدت الديبلوماسية الصهيونية ما بدا أنه خطاب متماسك، على أساس من صور نمطية وتضخيمات حفل بها الإعلام الغربي، كذلك قسم لا يستهان به من الخطاب الأكاديمي الغربي يصوّر المسلمين خصما محتملا للحضارة الغربية وقيمها، وبالتالي، خطرا مُرجّحا على تماسك بعض الدول الوطنية متعدّدة الأديان كالهند والصين. وغنيٌّ عن البيان طبعًا أن تفكير الدول ونخبها السياسية تحت تأثير الخوف يكون مشابها لتفكير كل إنسان تحت ضغط العامل نفسه، وعلى أرض الواقع كان العداء التقليدي الهندي/ الباكستاني من جانب، والقلق المتصاعد لدى السلطات الصينية من الوضع في إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية المسلمة، عامليْن ساعدا بقوة على جعل صانعي القرار في البلدين يستمعان إلى الخطاب الصهيوني بشغف!
وخلال العقود التي مرت من تاريخ الصراع العربي الصهيوني، لم يكن لدى دول الخليج مبرّر منطقي (أو دافع نفعي) للتفكير في بناء علاقات مع إسرائيل، خصوصا أنها جميعًا تربطها علاقات جيدة بأميركا، ولم تكن أسيرة توهم عواصم أخرى أن الطريق إلى واشنطن يبدأ من تل أبيب، لكن لعبة "العدو المشترك" ساهمت، ضمن عوامل أخرى، في فتح الأبواب لرياح تطبيع فاجأت كثيرين. وقد شهدت سنوات حكم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تضخّم حجم التخوف الخليجي من إيران، وكانت بعض عواصمه (الرياض وأبوظبي والمنامة) أكثر تخوّفًا، كل بسبب اعتبارات تخصها، وكانت العواصم الخليجية الأخرى تستشعر بأن من الخطأ إحلال إيران محلّ كل مصادر الخطر الإقليمية الأخرى، وانتهى حكم أوباما (يناير/ كانون الثاني 2017)، وحديث "الخطر الإيراني" يُحدِث قواسم مشتركة في الخطاب الديبلوماسي لتل أبيب والخطابات الديبلوماسية للعواصم الأكثر استشعارًا للخطر.
ساهم الربيع العربي (ولو جزئيًا) في جمع تل أبيب وعواصم (خليجية وغير خليجية) في مواجهة "عدو مشترك" آخر: الشعوب العربية!
روى الدبلوماسي الأميركي السابق، دنيس روس، في مقالة له نشرها موقع معهد واشنطن اليميني (21/6/2022)، جانبًا من قصة الاستثمار الأميركي - الإسرائيلي في مقولة "العدو المشترك" لفتح أبواب عواصم خليجية للديبلوماسية الإسرائيلية، فقد اكتشفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، عندما قرّرت إطلاق مبادرة لحل الصراع هدفها الدول الخليجية، وأبدوا جميعًا اهتمامًا ضئيلًا بالمبادرة، وبدلًا من ذلك أوضحوا أن لديهم ثلاث أولويات: "إيران ثم إيران ثم إيران" (كما ورد في كتاب دنيس روس: "العلاقات الأميركية الإسرائيلية من ترومان إلى أوباما"، 2015). وبحسب روس، "تشاركت إسرائيل معهم الأولوية ذاتها، فضلًا عن واقع أن تصوّر وجود تهديد استراتيجي جامع وقوي ساهم بتعميق التعاون في المجال الأمني".
ويضيف روس في مقاله المهم: "في فبراير/ شباط 2009، طلب السفير الإماراتي يوسف العتيبة مقابلتي، بشكل غير رسمي، للتحدّث بشأن المقاربة التي سننتهجها إزاء إيران. والتقينا في جناحه في فندق ريتز كارلتون، وعندما طرقت الباب، استقبلني السفير العتيبة، وبجانبه السفير الإسرائيلي لدى واشنطن سالاي ميريدور"، يضيف: "وكان هذا الموقف بحدّ ذاته يحمل رسالة مهمة، فمن دون التفوه بكلمة واحدة، فهمت الرسالة التي أراد السفيران توضيحها، وهي أن البلدين يتشاركان وجهة نظر واحدة في ما يتعلق بإيران، وعلى الإدارة الأميركية أن تدرك أنهما يتعاونان، ومن الضروري أن تقدّر طبيعة التهديد والرد بناءً على ذلك". وقد ساهم الربيع العربي (ولو جزئيًا) في جمع تل أبيب وعواصم (خليجية وغير خليجية) في مواجهة "عدو مشترك" آخر: الشعوب العربية!
وقد يكون للحديث عن التكنولوجيا الإسرائيلية بعض البريق، لكنه بريق يسهل اكتشاف زيفه، فمقولة: "العدو المشترك" إذ تشير إلى إيران وإلى الشعوب ترسم الخطوط العريضة للتقارب.