إسرائيل والولايات المتحدة ونُكران الجميل
حينما ننظُر إلى سلوك أغلب القادة السياسيين في الكيان الصهيوني في سلوكهم مع الولايات المتحدة يتبيّن أن إحدى أهم السمات البارزة في هذه العلاقة نكران الجميل؛ ذلك هو العنوان الأبرز، رغم ما يراه العالم أجمع مما تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل من دعم مادّي ومعنوي، وتعاون عسكري، وصولاً إلى اعتبارها حقيقة، وليس تصريحاً فحسب، جبهة متقدّمة في نظرية الأمن القومي الأميركي.
لقد مرّت بالكيان الصهيوني منذ تأسيسه ظروفٌ صعبة أدرك خلالها أنه لا يمكن أن يستمرّ في احتلال فلسطين من دون دعم الولايات المتحدة ومساندتها الكاملة؛ ففي حربي أكتوبر الأولى (1973) والثانية الحالية عاش الكيان تهديداً وجودياً، وعرف مواطنوه جيداً أنه لولا الجسور الجوية والدعم العسكري واللوجيستي الذي قدّمته واشنطن لم تكن إسرائيل لتبقى في المنطقة أبداً، أو أن تستمر. لكن ذلك لم يمنع القادة السياسيين وجمهورهم من انتقاد الأميركيين انتقاداً شديداً وكأنهم لم يقدّموا شيئاً. وقد تتيح لنا مراجعة مواقف الساسة الإسرائيليين من إدارتي الرئيسين ترامب وبايدن خلال الأعوام الماضية، وفي الحرب الحالية، رسم إطارٍ يساعدنا في توصيف حالة نكران الجميل تلك.
كان الإسرائيليون في أثناء رئاسة ترامب ينظرون إليه كأنه المسيح المخلص الذي جاء لتحقيق خلاص يهود العصر الحالي، واعتبره كثيرون منهم كوروش العصر الحديث، أتى ليكمل مهمة كوروش القديم؛ حتى إن رئيس الوزراء نتنياهو، في لقاء جمعه بالرئيس ترامب، بعد قرارات الأخير في صالح الكيان؛ من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعترافه بضم الجولان لإسرائيل، إضافة إلى ما أسفرت عنه جهوده في التوصل إلى اتفاق أبراهام، شبّه ما فعله الرئيس الأميركي حينها بما فعله الملك الفارسي قديماً لمّا سمح لمنفيي مملكة يهوذا بالعودة من بابل إلى فلسطين لبناء الهيكل في أورشليم، وصرّح بأن العلاقة بين الكيان والولايات المتحدة لم تكن أبداً بمثل هذه القوة.
هكذا كانت الأغلبية الكاسحة من الإسرائيليين ترى الرئيس ترامب في أثناء رئاسته، لكن هذا تغيّر بعد مغادرته البيت الأبيض؛ إذ تبيّن أن بعض تصرّفاته وأقواله القديمة تعكس شخصية رجل عنصري معادٍ للسامية، مثلما عبرت السفيرة الإسرائيلية السابقة، توفاه هرتزل، في مقالها في "يديعوت أحرونوت" نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، حين وصفته بأنه غارقٌ في قضايا قانونية، ومدانٌ بتهمة اعتداء جنسي، وأنه لا يمكن مقارنة ما فعله ترامب لإسرائيل بمجهودات بايدن طوال 50 عاماً قضاها مدافعاً عن الكيان الصهيوني منذ بدأت عضويته في مجلس الشيوخ. في سياق انتقاد ترامب، جاء مقال أورلي أزولاي في "يديعوت أحرونوت"، وكتبت فيه أن الإسرائيليين الذين يحبّون ترامب سامحوه على أكاذيبه وجهله وسلوكه المتنمّر، ونسوا أنه أضر بإسرائيل ضرراً بالغاً حينما انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، وهي خطوةٌ أحدثت قفزة كبيرة في البرنامج النووي الإيراني تحت إشرافه وإشراف نتنياهو. بل إنه طبقاً للكاتبة سمح خلال فترة حكمه للحركات المعادية للسامية بممارسة نشاطها، وترى الكاتبة أن من يحبّون ترامب لم يفكروا في أن أتباعه من الإنجيليين يؤمنون بأن تجمع اليهود في مكان واحد ليس من أجل اليهود، بل لأنه مقدمة لحرب يأجوج ومأجوج، وقيامة المسيح، وحينها سيكون مصير اليهود ومن لا يعتنق المسيحية جهنم، وهكذا فمحبة ترامب وأنصاره هي محبة مظلمة. تذهب الكاتبة أبعد من ذلك؛ إذ تعتبر أن اتفاق أبراهام لم يفد إسرائيل في شيء باستثناء قضاء بعض العطلات في دبي، وأن ترامب هو مسيح كاذب، أضر بإسرائيل أكثر مما نفعها، والويل لإسرائيل إذا عاد للبيت الأبيض. وبهذا صار ترامب ملعوناً رغم كل ما قدم، ولم يعد حتى يساوي حذاء بايدن، مثلما صور أحد الكتاب، لأن الأخير خدم إسرائيل في حربها الحالية أكثر مما خدمها أي رئيس أميركي سابق، وأن إسرائيل لم تكن قادرة على مواجهة التحدّي الحالي لولا وقوفه جانبها.
العلاقة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة اتّجهت لتأخذ طابعاً شخصياً منذ جاء نتنياهو إلى الحكم
والملاحظ هنا أنه منذ تشكّلت حكومة نتنياهو الحالية وضمّت أحزاباً من أقصى اليمين المتطرّف، كانت مواقف إدارة بايدن أقرب إلى مواقف أحزاب المعارضة العلمانية التي تضمّ قوى يسار ووسط ويمين علماني في إسرائيل، وقد ظهر ذلك أكثر جلاءً في أزمة التعديلات القضائية، ويلاحظ كذلك أن أكثر الأصوات المنتقدة لترامب صدرت عن دوائر أقرب إلى المعارضة، لكن هذه الأصوات كانت سعيدة بالدعم الذي قدّمه لإسرائيل، والقرارات التي أصدرها في حينه، لكنهم يتنكّرون الآن لهذا الدور الذي قدّمه. في الوقت نفسه، تتنكّر الآن الحكومة الحالية، ومعها مؤيّدوها وجمهورها، لما قدمه بايدن والولايات المتحدة لدولة الاحتلال خلال الحرب الحالية.
والواضح هنا أن العلاقة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة اتّجهت لتأخذ طابعاً شخصياً منذ جاء نتنياهو إلى الحكم، وخصوصاً مع الإدارات الديمقراطية في واشنطن؛ وأصبحت سياسة الحكومة الإسرائيلية تتمحور حول شخص نتنياهو، وصار مؤيدوه يدورون في فلكه، فيحقّقون التنسيق الكامل مع الأميركان، والاستفادة التامة منهم مالياً وعسكرياً ولوجيستياً، لكنهم لا يقبلون التدخلات الأميركية التي يظنّ أنها تمسّ نتنياهو، أو تهدّد ائتلافه الحاكم وبقاءه في السلطة، لإدراكهم أن إدارة بايدن تريد فعلياً التخلّص من نتنياهو، وتبحث عن كل وسيلةٍ تحقق لها هذا الهدف. وفي هذا السياق، يشنُّ سياسيون في الائتلاف الحاكم هجوماً على الولايات المتحدة؛ بداية من نتنياهو نفسه، الذي كرّر مراراً أن واشنطن ليس لها الحقّ في التدخّل في السياسة الداخلية لبلاده القادرة على تدبّر أمرها بنفسها، مروراً ببن غفير الذي عبّر عن رفضه بعض ضغوط الولايات المتحدة بقوله "نحن لسنا نجمة في العلم الأميركي"، وعضو الكنيست عن "الليكود"، تالي جوتليب، التي قالت، في تعليقها الرافض المقترح الأميركي بإنشاء رصيف في غزّة: "لم يكن العالم أبداً إلى جانبنا، ولا حتى الولايات المتحدة، وإن بدا غير ذلك".
مرّت بالكيان الصهيوني منذ تأسيسه ظروفٌ صعبة أدرك خلالها أنه لا يمكن أن يستمر في احتلال فلسطين من دون دعم الولايات المتحدة ومساندتها
ليس هذا النهج جديداً، فقد سبق أن هاجم أعضاء من الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل إدارة بايدن، حينما كان الخلاف على أشدّه بشان التعديلات القضائية، وأرادت الإدارة الأميركية حينها وقف هذه التعديلات؛ وحينها صرح عضو الكنيست عن الليكود، نيسيم فاتوري، في مارس/ آذار 2023، "لا يمكن للولايات المتحدة أن تتدخّل في شؤون إسرائيل الداخلية، نحن دولة ديمقراطية، فهل سيفرض علينا ما نفعله؟... حينما تستدعي الحاجة إسرائيل أن تدافع عن نفسها، فإنها ستفعل ذلك من دون الولايات المتحدة". أو مثلما عبر عضو الكنيست الأسبق عن الليكود، موشيه بيجلين، والذي سبق له أن شغل منصب نائب الكنيست، حينما صرّح، في أول الحرب في لقاء على القناة السابعة الصهيونية، بأن على إسرائيل أن تخبر بايدن أنها ستنتصر بدونه، "علينا أن ننتقم من غزّة، وأن نجعلها تلقى مصير الهلاك الذي لاقاه الجوييم قديماً في حروبنا التي حكت التوراة عنها، إن بايدن لا يستحقّ الشكر، ونحن لن ننتصر معه على حماس".
وهكذا، لا يقتصر النكران على فريقٍ دون آخر، أو حزبٍ دون غيره؛ إذ تبدو الأصوات القادمة من أحزاب اليسار والوسط والقوى الليبرالية في إسرائيل غير معترفة بما قدّمه ترامب، بينما تبدو أكثر قوى اليمين والأحزاب الدينية منكرةً ما فعله بايدن؛ ويزداد هذا النكران، في حالة بايدن، كلما اتجهنا إلى أقصى اليمين والأحزاب الدينية والشخصيات الأشد تطرّفاً، ربما لأنهم يعتبرونه أداة يحقق من خلالها الربّ وعوده لليهود.
غير أن هذا الأسلوب الإسرائيلي لا يغيّر شيئاً في التزام واشنطن تجاه إسرائيل، مهما بلغ حجم الخلافات بينهما ومهما اختلفت الإدارة في الجانبين؛ ولا يؤثّر في اعتبارها نقطةً متقدّمة للدفاع عن الأمن القومي الأميركي في المنطقة. ولأن قادة الكيان يدركون هذه الحقيقة، فإنهم لا يجدون حرجاً مطلقاً في الاستمرار على نهج أسلافهم أنفسهم الذين لم يمنعهم إحسان الآخرين من الإساءة إليهم.