أي مضمون "للحوار الوطني" في مصر؟
تثير دعوة "الحوار الوطني" التي أطلقها النظام المصري أخيراً، ولا تزال، جدلاً كثيراً. وفي الغالب، بدا موضوع الحوار عامّاً ومبهماً، ولم تتحدّد القوى الأساسية الموجهة إليها هذه الدعوة، وآليات تنفيذها. ويلفت النظر توقيت الدعوة، والتي جاءت في ظلّ الانتقادات الدولية للملف الحقوقي، وأزمة اقتصادية طاحنة، إلى جانب تزايد الغضب الشعبي لمسار النظام وخياراته بزيادة القروض الدولية، وبيع الأصول، وهو ما زادته سوءاً التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية في أوكرانيا.
وتجاوبت أحزاب من التيار الديمقراطي والحركة المدنية الديمقراطية مع الدعوة، ودعت الأخيرة إلى عقده تحت رعاية الرئاسة، ووجود تمثيل متساوٍ لطرفي الحوار وبث الجلسات من خلال وسائل الإعلام، غير أن أهم التساؤلات البارزة من القوى السياسية المختلفة تتناول مدى جدية هذا الحوار ونتائجه ومآلاته، ومدى نجاحه في ثني النظام عن مواقفه الحالية في بعدها السياسي والاقتصادي. وهناك ملاحظات جوهرية يمكن إبداؤها على هذه الدعوة أهمها:
أولاً: لم يجر الإعلان عن أي إطار نظري يوضح أسباب الدعوة وأجندة الحوار والجهات المدعوة إليه، وخلفياته والقضايا التي ستناقش خلاله وكيفية تنفيذ مخرجاته، وكيفية القبول بهذه المخرجات إنْ من خلال التوافق العام، أم باللجوء إلى التصويت؟ وهل هناك إرادة سياسية من النظام لتنفيذ حد أدنى من مطالب الجهات المشاركة في الحوار؟
يشير التاريخ السياسي المصري إلى ندرة قيام الدولة بتغيرات سياسية كبيرة نتيجة حوارات بين النظام والأحزاب السياسية
وفور الدعوة إلى هذا الحوار، بدا أنّ ثمّة تناقضات تتعلق بالجوانب الإجرائية المتعلقة فيما يخصّ الجهة المنظمة له، إذ أوكل الخطاب الرئاسي سكرتارية مؤتمر الشباب لتنظيمه، ثم أوكلت لاحقاً إلى الأكاديمية الوطنية لتدريب الشباب، وهي جهة أنشئت بقرار من رئيس الجمهورية، وتتبع له شخصياً، لكنّ مهمتها تتركّز على الجانبين، الفني والإداري، بتدريب الشباب لتولى المواقع القيادية في الدولة. ويعبر هذا التناقض عن وجود تصوّرات مختلفة تقف وراءها الأجهزة الأمنية المتنفذة. كما لاقى اختيار "الأكاديمية" انتقاداً كبيراً من بعض الأوساط، لأنّها جهة غير سياسية، مفضّلين تفويض جهة أخرى ذات طابع سياسي لتقوم بذلك، مثل مجلسي النواب أو الشيوخ أو رئاسة الجمهورية ذاتها، ليعكس ذلك أهمية مخرجات الحوار وتطبيقاتها. كما يحمل تكليف جهة إدارية وتكنوقراطية بهذه المهمة تقليلاً من الدعوة، ورغبة ضمنية في تفليص طموحات المشاركين، وعدم الالتزام بمخرجاتها مستقبلاً، ورغبة في عدم إضفاء الطابع السياسي أو الحزبي على مجريات الحوار.
ويشير التاريخ السياسي المصري إلى ندرة قيام الدولة بتغيرات سياسية كبيرة نتيجة حوارات بين النظام والأحزاب السياسية، بل بالعكس جاءت القرارات السياسية المهمة طوال حقبتي أنور السادات وحسني مبارك من الرئيس مباشرة، وأبرزها تعديل المادة 76 من الدستور التي فتحت الباب لأول انتخابات رئاسية تعدّدية عام 2005، وذلك بتأثير ضغوط دولية وأميركية وقتها، وهو ما أدّى إلى فوز جماعة الإخوان المسلمين في العام بأكبر وجود برلماني لها منذ بدء الحياة النيابية. ودائماً ما كانت تُستخدم جلسات أي حوار حكومي مع أحزاب المعارضة لإضفاء الشكل على المبادرات الرسمية التي كان يجرى تبنّيها مسبقاً أو تمهيداً لها.
ثانياً: يأتي السؤال الرئيسي بشأن مضمون الدعوة التي سمتها الرئاسة "حواراً سياسياً حول أولويات العمل الوطني"، ووصفه بالوطني ليست مصادفة، فهل يعني حواراً سياسياً حقيقياً بين أحزاب المعارضة وممثلي السلطة في قضايا معينة تراها الأخيرة من الأولويات، وبالتالي يقتصر على مناقشة آثار السياسات الحالية التي تتبنّاها الدولة وعلاجها، وقد لا يمتد إلى طرح تطبيق سياسات بديلة، وهو ما يشير إليه ضمنياً بيان رئيس الوزراء عن تبنّي السياسات الاقتصادية نفسها، المرفوضة شعبياً على مدار أربع سنوات مقبلة، والتي لم تنتظر مخرجات الحوار!
سوف تحدُث ضغوط من الأجهزة الأمنية المسيطرة على الأكاديمية في صياغة مخرجات الحوار، وبذلك لا يضمن أحد صياغة هذه المطالب
ثالثاً: يبدو مأخذ آخر يتعلّق بتكليف جهة غير سياسية بالإشراف على دعوات الحوار وشخوصه، وبالتأكيد سوف تحدُث ضغوط من الأجهزة الأمنية المسيطرة على الأكاديمية في صياغة مخرجاته، وبذلك لا يضمن أحد صياغة هذه المطالب، بحيث تعرض وجهات النظر المعارضة، وبالتالي بإمكانية تنفيذ مطالبها، وهذا ما يؤدّي إلى تساؤل آخر يتعلّق بمدى القوة التي تتمتع بها أحزاب التيار الديمقراطي لإجبار الدولة على تنفيذ جزء من مطالبها البسيطة.
رابعاً: يحمل النهج الخاص بتوسيع ساحة الحوار لأكبر فئةٍ ممكنةٍ من مختلف الهيئات والأشخاص مخاطر عدة، أهمها تهميش وجهات النظر المعارضة للسياسات الحالية، فضلاً عن صناعة أشكال أخرى مؤيدة لسياسات النظام واستدعائها لحضور الحوار جنباً إلى جنب مع ممثلي التيار الديمقراطي، وأبرزها ما تسمّى "المجموعة الوطنية للحوار"، والتي تضم وجوهاً محسوبة على أحزابٍ تدعم سياسات النظام وتدافع عنه، رغبةً في عقد ما يشبه "سوق عكاظ"، أو "اسأل ونحن نجيب"، بهدف التغطية على مطالب المعارضة وتوصيفها بأنها صوت الأقلية، فضلاً عن دعوة ممثلي النقابات المهنية والعمّالية وغيرها، وهو ما ينزع عن الحوار الصبغة السياسية، ليحوّله إلى حوار في قضايا فرعية تتعلق بالتفاصيل، وكثيراً ما استخدمت الدولة هذا المسلك، خصوصاً في ظل سيطرة المجلس العسكري على الدولة عقب ثورة 25 يناير. كما أن هذا الحوار قد يؤدّي إلى استفادة السلطة بزيادة الانقسامات داخل صفوف المعارضة، وتزايد عدم الثقة بها وبخياراتها السياسية، خصوصاً إذا فشل الحوار في تحقيق أي نتيجة.
لا يريد النظام القيام بمطالب الحد الأدنى الضرورية قبل عقد مثل هذا الحوار، بالإفراج عن كل سجناء الرأي وتعديل نظام الحبس الاحتياطي المطوّل
ويسود انطباع قوي بوجود رغبة رسمية في توظيف هذا الحوار، للإيحاء بالقيام بإصلاحات سياسية وحقوقية على المستوى الشكلي، في ظل تصاعد الضغوط الدولية. ويأتي ضمن هذا الاتجاه عقد المجلس القومي لحقوق الإنسان حواراتٍ سابقة مع ممثلي أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية، وصحافيين مستقلين، من دون أن يتحقّق أيٌّ من مطالب هذه الجهات، باستثناء الإفراج عن بعض المحبوسين احتياطياً.
والسؤال الأهم يتصل بمدى توافر إرادة سياسية حقيقية للنظام بتبنّي بدائل سياسية مختلفة، وهو المعروف بأنه لا يكترث بوجهات نظر المعارضة طوال السنوات الماضية، والشواهد واضحة، فلا يريد النظام القيام بمطالب الحد الأدنى الضرورية قبل عقد مثل هذا الحوار، بالإفراج عن كل سجناء الرأي وتعديل نظام الحبس الاحتياطي المطوّل، ووقف سياسات التدوير، وتقييد حريات الرأي والتعبير والتي لا تحتاج حواراً أو تفاوضاً حولها.
الخلاصة أنّ عدم وضوح الخلفية السياسية وأجندة الحوار والجهة المنظمة له وتنفيذ مخرجاته وطبيعته السياسية يؤكد مخاوف من توظيفه لأغراض أخرى، من دون تحقيق الأهداف التي تسعى إليها المعارضة المصرية.