أوكرانيا وليتوانيا.. والمواجهة بين روسيا والغرب
بينما ينشغل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في طلب مزيد من المساعدات الغربية لبلاده، وتطوير مباحثات عضوية الانضمام للاتحاد الأوروبي، تستعر بوادر الصدام الروسي الغربي، مع إعلان الرئيس الروسي، بوتين، نيته تزويد بيلاروسيا بأسلحة متطوّرة ذات رؤوس نووية كصواريخ إسكندر. جاء ذلك عقب لقاء بوتين الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو في سان بطرسبرغ، في 25 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وسبق الإعلان بساعات قصف الجبهة الشمالية الأوكرانية بصواريخ روسية انطلقت من داخل الأراضي البيلاروسية، في خطوة اعتبرتها وزارة الدفاع الأوكرانية محاولة من الكرملين لجر بيلاروسيا للمشاركة المباشرة في الحرب، واستفزازاً واسع النطاق. لكن الرئيس الروسي اعتبرها إجراءات ضرورية في وجه ما عدّها تهديدات وجودية، سببها دول الغرب وأوروبا. ويبدو أنّ الرئيس بوتين بدأ تنفيذ أولى خطواته ورفع تصعيد المواجهة مع الغرب، عبر إعادة التلويح بورقة السلاح النووي، بعدما أقدمت ليتوانيا قبل أيام على فرض حظر على البضائع الروسية في جيب كالينينغراد، استجابة للعقوبات التي فُرضت على روسيا من أوروبا والولايات المتحدة. لكن روسيا أزعجها القرار، واستدعت على الفور سفير الاتحاد الأوروبي لتقديم مذكّرة احتجاج له. إلى جانب ذلك، قال سكرتير الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، إنّ بلاده ستردّ في أقرب وقت على الحظر الذي فرضته ليتوانيا، مضيفاً أنّ إجراءات الرد الروسي ستكون لها عواقب على الشعب الليتواني، وربما تخصيص كلمة "شعب" جاءت مُحمّلة ضمن خيارات الكرملين القادمة وفقَ تقييمها اليومي على الأرض، فعلى سبيل الذكر، تستطيع روسيا تحقيق نوع من الألم والضغط على ليتوانيا، شعبياً، في حال عزلها عن طريق استهداف ممر "سوالكي" الذي يبلغ طوله 50 ميلاً، والذي يربط بين كالينينغراد وبيلاروسيا عبر بولندا وليتوانيا، هذا فضلاً عن أنّ القرار الروسي تزويد بيلاروسيا بصواريخ إسكندر سيرفع من حجم التهديد على دول البلطيق، إلى جانب فنلندا والسويد اللتين باتتا تخشيان من أن يقود اتساع رقعة المواجهة إلى أبعد من أوكرانيا، وتفعيل ورقة السلاح النووي التكتيكي بحيث يضعها أما مخاوف إقدام روسيا على احتلال جزيرة غوتلاند الاستراتيجية المطلّة على سواحل بحر البلطيق. وهذا احتمالٌ لا يمكن استبعاده بعد توتّر في العلاقات بين روسيا وفنلندا والسويد على هامش طلب الأخيرتين الانضمام لحلف الناتو، كما أنّ مؤشّرات التصعيد وبوادر الاتهامات كانت حاضرة قبل شهرين بين موسكو والسويد، على خلفية اختراق السواحل السويدية من قبل طائرات موسكو، وصفتها بالعمل الاستفزازي، كما أنّ مصادر عدّة كانت قد أكدت قبل أسابيع نشر روسيا 20 سفينة روسية على مقربة من جزيرة غوتلاند إلى جانب نشر عشرات من القوات في منطقة "فيسبي" الساحلية القريبة من الجزيرة. وفي حقيقة الأمر، تُولي روسيا أهمية كبيرة لهذه الجزيرة، فالسيطرة عليها تسمح لها بالاستحواذ التام على مداخل بحر البلطيق، وتُتيح لقواتها الولوج إلى تلك المياه والتحكّم في قلب أوروبا.
يتفق كبار الخبراء على أنّ مسار الحرب مفتوح، ولا آفاق موجودة لوضع أوزارها، فالمفاوضات الروسية الأوكرانية متوقّفة
بالعودة إلى التصعيد الليتواني الروسي، يرى مراقبون أنّ خطوة الحظر على البضائع الروسية في كالينينغراد مدفوعة من الغرب، وبعض دول أوروبا، بهدف التضييق أكثر على الاقتصاد الروسي، وحرمانه من دعم آلته العسكرية، إذ إنّ ما يقارب نصف البضائع المارّة مشمولة في حزم العقوبات وتستهدف قطاع البناء والمعادن، بالتالي، حرمان روسيا منها سوف يُحقق مزيداً من الألم على اقتصادها. لكن في واقع الأمر قد تُسبب هذه الخطوة اتساعاً في رقعة المواجهة بين الغرب وروسيا، وتُطيل من أمد الحرب السارية على الساحة الأوكرانية. وبحسب تصريح الأمين العام لحلف الناتو، ستولتنبرغ، قد تستمر سنوات، وبموجب هذه الخطوة، قد تدفع بوتين هذه المرّة لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية ربما عن طريق حليفة البيلاروسي، إذا ما شعر بأنّ الوضع أصبح يستدعي ذلك، لكن المقصود بالاستخدام النووي التكتيكي، الردعي وليس الهجومي. ويرى خبراء عسكريون أنه من غير الواضح بعد هدف بوتين الجوهري من هذه الخطوة، وهي ليست المرّة الأولى التي يُشير فيها إلى السلاح النووي، فخلال الأسابيع الأولى للحرب خصيصاً عندما كانت قواته تُعاني في كييف قبل الانسحاب منها، أعلن حينها عن رفع الجاهزية النووية بقدراتها الكاملة في الحدود المشتركة مع أوكرانيا. لكن هذه المرّة هل يفعلها بوتين عن طريق حليفه لوكاشينكو الذي صرّح، عقب لقائه مع بوتين، عن "الاستعداد الكامل لاستخدام أسلحة فتاكة" وهل يدخل ذلك كله في إطار أوسع بالمواجهة مع الغرب، ويعدّ أيضاً ترجمة لتصريح بوتين قبل أسابيع في خطابٍ من سان بطرسبرغ: "القطبية الأحادية انتهت وعلى الغرب أن يعي ذلك"؟
بطبيعة الحال، يتفق كبار الخبراء على أنّ مسار الحرب مفتوح، ولا آفاق موجودة لوضع أوزارها، فالمفاوضات الروسية الأوكرانية متوقّفة، ومسار إسطنبول للمباحثات مهتم الآن بإيجاد مخرج لتصدير القمح الأوكراني، وحل قضية السفن العالقة في موانئ أوديسا المحاصرة، واللغز هنا القوة الروسية التي يعتقد بعضهم أنها وراء أزمة الغذاء وتوظيفها ورقة ضغط على الأوروبيين والغرب لتغيير سلوكهم، وإلى حدّ ما بدأت تظهر مؤشّرات التكتيك الروسي، بعد ارتفاع مستويات الغلاء من سلع وطاقة ومواد أخرى، حتى في داخل الولايات المتحدة التي باتت عبر إدارة جو بايدن تشعر ببعض الإحراج، وربما هناك تخوّف من انعكاس ذلك على الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لا سيما بعد ارتفاع غير مسبوق في مضخّات الطاقة الأميركية. لعل ذلك ما دفع إدارة بايدن إلى رفع التأثير على روسيا عن طريق الحلفاء في بحر البلطيق والضرب بالخاصرة الأهم للرئيس الروسي، كالينينغراد، وهي منطقة روسية استطاعت نزعها من الألمان بعد الحرب العالمية الثانية 1945، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بقي الجيب محاصراً وتابعاً لروسيا، وفق تفاهمات جرى ترتيبها مع دول أوروبا، وتحوي أسطولاً بحرياً كبيراً، إلى جانب منظومات دفاع إس 400، وإسكندر ورؤوس نووية قصيرة المدى، وهي واقعة بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق، وهما دولتان في الاتحاد الأوروبي.
إلى جانب تسخين الجبهات في بحر البلطيق، تنتظر أوكرانيا أيضاً الدفعة الثانية من راجمات "هيمارس" الأميركية المتطورة، ومدافع "هاوتزر" الاستراتيجية
إلى جانب تسخين الجبهات في بحر البلطيق، تنتظر أوكرانيا أيضاً الدفعة الثانية من راجمات "هيمارس" الأميركية المتطورة، ومدافع "هاوتزر" الاستراتيجية، وينتظر بعضهم أن تُحدث هذه الأسلحة تعديلاً في موازين القوى على الأرض، خصوصاً بعدما استطاعت روسيا إحراز تقدّم بعد مسكها زمام المبادرة عسكرياً في سيفرودينتسيك، وماريوبول وخيروسون، وتأتي هذه التقدّمات في وقت بدأ فيه بعض الدول الأوروبية والغربية تُرسل رسائل يأس على امتداد الأزمة؛ إذ قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في تصريح له، بعد عودته من زيارة كييف، إنه متخوف من أنّ الفتور في دعم أوكرانيا واستمرار مسار المعارك قد يقودان إلى مفاوضات لن تصب في صالح أوكرانيا. ويعد هذا التصريح الأخطر، ويعكس حجم الملل والإحباط من دول كانت قائدة القطار الأوروبي في تعزيز فرض العقوبات على روسيا.
أخيراً، على الصعيد الاستراتيجي، في ظل الانشغال الأميركي بالمشكلات الداخلية وتركيز الاهتمام على احتواء الصين، وعودة الاهتمام لردع إيران، واستمرار روسيا في التقدم البطيء، وظهور شلل أوروبي وتصعيد في حوض البلطيق، لا يبدو أن بوتين سيقف عن حملته العسكرية، وهو يقرأ بتمعّن أنّ الولايات المتحدة ما زالت ترمي بحلفائها وتدفعهم إلى التصعيد على الساحة الأوكرانية، لتحقيق هدف الاستراتيجي في تحقيق إضعاف الجميع والحفاظ على نهج القطبية الواحدة، لذا مع دخول ليتوانيا على خط الصراع، وبيلاروسيا رأساً نووياً في الجبهة الشمالية الأوكرانية وعودة تهديد العاصمة كييف، بسلاح تكتيكي نووي، يبقى مسار المواجهة الغربية الروسية مطروحاً، وكل يوم يقترب أكثر، وهو ما يُحتّم على الولايات المتحدة أن تُعيد النظر في خياراتها المقبلة، كإعادة الزخم العملي لدعم أوكرانيا، والنظر من جديد في مصير قانون "الإعارة والتأجير" الرامي إلى تسريع وتيرة المساعدات العسكرية لأوكرانيا عبر جسر مفتوح على غرار ما فعلت في الحرب العالمية الثانية، وإلّا ستجد نفسها مضطرّة للانخراط في الحرب مهما عملت على تجنبها، وبالنسبة لدول أوروبا المنقسمة تحتاج لتوحيد الصف أكثر والسعي جاهداً إلى تحقيق استقلالية في القرار والضغط على جميع الأطراف، بهدف إيقاف الحرب عبر مفاوضاتٍ تحمي أمنها القومي، وبمعنى آخر، يجب إرضاء بوتين قبل فوات الأوان؟