أوكرانيا .. لو لم يكن ما كان!

21 سبتمبر 2022
+ الخط -

لو لم يكن ما كان، ما كان يمكن أن يكون.

تحيل هذه العبارة الموجزة إلى ما هو لافتٌ في حرب أوكرانيا، فبعد سبعة شهور أخذتها الحرب من أعمارنا تدخل اليوم في المرحلة الصعبة التي تتجاوز فيها كونها "عملية عسكرية محدودة"، كما أرادها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتصبح حرب "فطرياتٍ تكبر تلقائيا عبر الانشطار والتبرعم"، بوصف عالم الاجتماع الفنزويلي كارلوس راؤول هرنانديز، فمذ شرعن الغرب حزم عقوباته الاقتصادية التي استهدفت مئات المسؤولين والشركات والهيئات والمصارف الروسية ردّا على الخطوة الروسية، ومذ بدأت الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بمساعدات عسكرية شملت مختلف أنواع الأسلحة وتقنيات الحرب التي بلغت كلفتها حتى الساعة أكثر من 15 مليار دولار، ومذ دخلت مسائل الغاز والنفط والقمح والسلع الأخرى في أجندة الحرب أصبح معروفا أن الصراع بين روسيا والغرب قد اتّسع، وأنه اتخذ أنماطا متعدّدة من الحروب: عسكرية واقتصادية وسيبرانية ودبلوماسية وإعلامية، وكذا حرب السعي لكسب داعمين وأصدقاء ومناصرين، وحتى حرب ثقافية تستهدف الرموز الثقافية والمباني التاريخية والتراث والذاكرة العامة، وقد فرضت التطورات التكنولوجية التي نعيشها اليوم استخدام أدوات لم تكن الحروب السابقة قد عرفتها من خلال أشكال مبتكرة لحرب العصابات بإدارة شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، لتكييف نتائج معينة لوقائع قائمة أو من خلال الهجمات السيبرانية لكبح جماح البنى التحتية الحيوية للدولة الخصم، مثل إدارة الموارد المالية أو خدمات الصحة والحياة أو إمدادات المياه أو الطاقة، وقد تنزلق الحرب أيضا إلى تدبير أعمال عنف وتكتيكات إجرامية ومحاولات زرع الشكوك بين السكان وزعزعة الاستقرار لدى الطرف الخصم حتى ينكسر، (هل نعتبر مقتل ابنة ألكسندر دوغين منظّر الحرب، وملهم عقل الرئيس بوتين، أو ما روجه الغرب عن محاولة فاشلة لاغتيال بوتين نفسه، أو حتى واقعة اصطدام سيارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي أمثلة للعنف والأعمال الإرهابية التي تأخذ في الظهور مع تصاعد رحى الحرب الدموية؟). ولم يعد الصراع منحصرا في الجانب العسكري الذي قد يبقى في إطار الأراضي الأوكرانية والروسية وحدها فترةً قد تطول، فيما تصل الأنماط الأخرى إلى فضاءات واسعة في العالم، وتشمل دولا قريبة وبعيدة في قارّات عدة.

تتحوّل حرب أوكرانيا إلى حرب استنزافٍ تؤول نتائجها لصالح الطرف الذي يمكنه أن يطاول خصمه، ويتحمّل أكثر منه

بهذا القدر أو ذاك، تتحوّل حرب أوكرانيا إلى حرب استنزافٍ تؤول نتائجها لصالح الطرف الذي يمكنه أن يطاول خصمه، ويتحمّل أكثر منه. وبالطبع، ليس بإمكان الروس، ولا الأميركيين، قبول خسارة هذه الحرب، حتى ولو من الناحية المعنوية، لكن الخسارة الأقرب إلى التحقق سوف تكون واضحةً في أوكرانيا نفسها، وفي الأقطار الأوروبية المتاخمة لها. وقد أدركت أوروبا هذه الحقيقة على نحوٍ ما، ومع أنها رأت في حرب أوكرانيا "تهديدا للديمقراطية، ولطاقات أوروبا واقتصادها وقيمها ومستقبلها"، كما أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية فون ديرلاين، وتمسّكت بتحالفها مع الولايات المتحدة في مواجهة الخطر، إلا أنها، من الناحية الأخرى، سعت إلى إشاعة حالة من التمايز عن الموقف الأميركي، ولو بشكل محدود، وشرعت في البحث عن طرق ومسالك لإيجاد حلول ومعالجاتٍ تضمن لها تقليل الخسائر التي قد تتعرّض لها، وتتيح تطمين مصالح شعوبها التي بدأت نار الحرب الاقتصادية تصل إليها، وهي على أبواب شتاء قارس. وهنا يمكن أن نفهم معنى إبقاء بعض خطوط الاتصال قائمة بينها وبين موسكو، مع ملاحظة أن اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسيين كان يشكل أزيد من 40% من احتياجاتها الفعلية للطاقة، وهو ما جعل من موسكو شريكا تجاريا لأوروبا لا يمكن تعويضه بسهولة.

اكتشف الأميركيون متأخرين أنهم أهملوا، في ما سبق، احتمال أن تستيقظ روسيا يوما وقد شعرت بالجرح الذي لحق بها بعد موت الاتحاد السوفييتي، وأنها قذ تثأر لهذا الجرح، وتحاول استعادة مجدها الزائل، وكانت كل افتراضاتهم "الاستراتيجية" أن روسيا لم يعد بإمكانها أن تتقدّم خطوة واحدة في هذا الطريق، وليس أمامها سوى أن تنكفئ لمداواة جرحها الغائر، كما أخطأوا في تقييم خطوات الدخول الروسي الجديد إلى العالم الذي أطلقه الرئيس بوتين في العقد الأخير.

هذا كله عقد من نظرة كل من طرفي الحرب إلى معضلة "الحرب" نفسها، وما يمكن أن ينتج عنها، وما يحتمل أن تحققه على صعيد الأطراف الأخرى التي يمكن أن تفرض عليها المشاركة فيها بحكم عوامل مختلفة، وقد بدأت تتحوّل بالفعل إلى إعصار جيوسياسي هائل، يشكّل تحدّيا كبيرا لاستقرار أوروبا وأمنها، وقد يعيد رسم خريطة العالم على غير ما نعرفه اليوم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"