أوكرانيا التي قتلت رفيق الحريري!
اغتيل في 14 فبراير/ شباط 2005 النائب اللبناني في حينه، ورئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وبعد مقتله بأيام، وردت في تقرير للصحافية رندة تقي الدين في صحيفة الحياة اللندنية (21/ 2/ 2005) عبارة منسوبة للحريري شبه فيها لبنان بأوكرانيا: "أوكرانيا ليست أهم من لبنان، والرئيس بشار الأسد ليس أقوى من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالنسبة إلى الأسرة الدولية". وقد عُدت إلى أرشيف مقالاتي في "الحياة"، واستعدتُ مقالًا نشرته فيها معتمدًا على ما تسرّب من معلومات عما قاله الحريري عن أوكرانيا وخروج الروس منها: "لبنان وأوكرانيا .. ما الفرق؟ (الحياة، 28/ 2/ 2005). قرأت مرة أخرى كلمات الحريري، ومقارنته بين بشار وبوتين، وهي مقارنة ربما تحتاج تأملًا في ضوء المشهد الراهن. .. فهل قتلت أوكرانيا رفيق الحريري؟!
نعم قتلتْه، بقدر ما يقتل الأمل صاحبه. وذلك عندما تحوّل مشهد تحرّر أوكرانيا إلى حافز لما نُسب إليه من جهد لإخراج سورية من لبنان، بقرار مجلس الأمن 1559 الصادر في 2 /9 /2004، والذي يقضي بانسحاب جميع القوات غير اللبنانية من لبنان. والحدس المختبئ بكلام الحريري مدهش بالفعل، فكأنه رأى ببصيرته مخترقًا حجاب الغيب أن (سورية وروسيا وأوكرانيا) سترتبط معًا مرة أخرى بشكل معقد بسنوات دم وحرب، وبمشاهد متشابهة ومعركة تحرّر تتبادل التأثير والتأثر. والحضور الواضح للمأساة السورية في مشاهد المأساة الأوكرانية أمر لم يكن ليتوقعه أحد قبل سنوات، مهما كان نصيبه من الخيال السياسي الجامح.
هل قتلت أوكرانيا رفيق الحريري؟ نعم قتلته، بقدر ما يقتل الأمل صاحبه
ومن يعيد بناء مسار التحرّك الروسي بين سورية والقرم في 2014، ثم ليبيا عبر "مرتزقة فاغنر"، ثم تحرّكه صوب أوكرانيا نفسها في 2022، ربما وجد خريطة تمدّد أفعى، استفادت من أخطاء غربية تاريخية واستطاعت مراوغته (ونجحت في استغفال صنّاع قرار عرب) لتعيد نصب أعمدة خيمة هيمنة قديمة/ جديدة، تمتد حدودها الطموحة من الجوار التاريخي لروسيا إلى المياه في المتوسط. والعاجزون عن قراءة مسار التاريخ بحنكةٍ كافيةٍ لا يرون من الصورة إلا قدرة الجيش المدجّج نوويًا على الزحف (في معركة غير متكافئة) على بلدٍ يمكنه (بالمعايير العسكرية) التهامه، لكن المؤكد أن "المعدة الروسية" لن تستطيع هضمها، بالضبط كما استطاع نظام الأسد ابتلاع سورية عسكريًا وأمنيًا عقودا، ثم عجزت "المعدة السورية" عن هضمها، وربما كان الخروج السوري من لبنان أحد "البشارات المبكّرة" للثورة السورية.
لقد رأى رفيق الحريري في مشهد الانكماش الروسي آنذاك ما اعتبره حافزًا لإطلاق معركة القرار الأممي الشهير الذي ما يزال يوصف بأنه سببٌ رئيسٌ لمقتله. واليوم تعود روسيا إلى التمدّد غربًا لتقول له ولكل من يتمنى انقشاع ضباب الهيمنة الدولية والإقليمية إن المسار طويل وصعب، وإن المرضى بالهيمنة لا يشبعون من دماء الضحايا أفرادًا وشعوبًا. وعبرة القصة الطويلة الممتدة منذ مطلع القرن بأطرافها الرباعية (روسيا/ أوكرانيا - سورية/ لبنان)، أن الضحية قد تهزم قاتلها، وهي في "موقع الضحية".
تعود روسيا اليوم إلى التمدّد غربًا لتقول لرفيق الحريري ولكل من يتمنى انقشاع ضباب الهيمنة الدولية والإقليمية إن المسار طويل وصعب، وإن المرضى بالهيمنة لا يشبعون من دماء الضحايا
وبعد 17 عامًا، وفي الشهر نفسه (فبراير/ شباط) الذي دفع فيه رفيق الحريري حياته لأسبابٍ في مقدمتها طموحه إلى استلهام المشهد الأوكراني، بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن الفرق اليوم أن فلاديمير بوتين عاد إلى أوكرانيا أضعف "سياسيًا" مما كان يوم خرج منها، وأن جريمته في سورية، وكانت توشك أن تدخل دائرة النسيان، تعود مفردةً كثيفة الحضور في الخطاب الإعلامي الغربي عن أوكرانيا، وكأن الرابط لم ينفصم حتى اليوم بين ما رآه رفيق الحريري ببصيرته، وأراد أن يستلهمه لينقذ لبنان، وما شهدته سورية من هيمنة روسية عمياء وأدّت إلى ثورة نبيلة، وابتلعت وطنًا عريقًا في التاريخ فريدًا في الجغرافية، اسمه: سورية. والآن يعود الحريري إلى واجهة المشهد بحكم إدانةٍ بحق قتلته، بينما تشتعل النار في أوكرانيا التي كانت أحد حوافز المواجهة التي خاضها ضد الهيمنة السورية على بلاده.
وفي مسار التاريخ مختلفات ومتشابهات، وبين الحوادث من الروابط ما لا يكشف عن نفسه إلا بعد زمن. ومن المتغيرات ما لا يُكشف إلا أن تختبره الحوادث. وعلى سبيل المثال، كان "حزب المثبطين" العرب يرى حلم الحريري عبثا، ثم أقسموا، بأغلظ الأيمان، أن الثورة السورية "خطيئة"، وبعضهم اليوم (وقد كادوا ينقرضون)، يكرّرون اغتيال الحريري وحلمه، بخطاب مسموم عن عبثية أن يقاوم الأوكرانيون عدوّهم المحتل!