أوكرانيا .. أشباح الماضي على الأبواب
ترسل موسكو عشرات الآلاف من جنود وحداتها العسكرية على مقربةٍ من الحدود الأوكرانية يوم 30 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وتتبع ذلك بتصريحات للخارجية الروسية أن روسيا حرّة في تحريك قواتها كما يحلو لها على أراضيها، وتحذر من التصعيد في أوكرانيا، ومن حرب أهلية في هذا البلد. وهي بذلك تلوم البلد الجار المستضعف الذي كان في ما مضى جزءا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي، والذي استقل في العام 1990 عن المنظومة، مع غيره من الدول التي كانت في الفلك السوفياتي. ومنذ مجيء فلاديمير بوتين إلى الحكم رئيسا للوزراء ثم رئيسا للبلاد، وهو يبذل كل ما تملك يمينه لاستعادة تلك البلدان إلى بيت الطاعة الروسي، والتحذير من ضمها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحتى إلى الاتحاد الأوروبي، فالوضع المفضل للكرملين هو أن تبقى هذه الدول ضعيفة في الداخل وبغير حماية أو سند خارجي، كيما تكون في وضعٍ يسهل فيه ابتزازها والضغط عليها ثم استتباعها لموسكو. وقد نالت أوكرانيا حظاً وافراً من الأطماع الروسية، فقد تمت السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم في العام 2014، وهو التطوّر الذي لم ينل أي اعتراف دولي يذكر، وذلك بموازاة تغذية نزعات انفصالية لدى ناطقين بالروسية، مقيمين في شرق هذا البلد، والذين تعود إقاماتهم إلى عقود النفوذ السوفياتي لدى أتباع سياسات الإبدال والإحلال للأقوام، مع تشجيع تكوين مليشيات مسلحة في شرق أوكرانيا، وهو ما حدث بالفعل في إقليم دونباس، فقد اقتحمت دبابات روسية شرق أوكرانيا أغسطس/ آب 2014، وأسهمت في توطيد حكم مليشيات مسلحة، وقامت بتغذيتها ودعمها عسكريا. وفي أعقاب هذه الأزمة الكبيرة، توصلت الأطراف المتحاربة شرقي أوكرانيا في فبراير/ شباط 2015، في عاصمة بيلاروسيا مينسك، إلى اتفاقٍ على وقف إطلاق النار، يقضي بسحب الأسلحة الثقيلة والقوات الأجنبية من أوكرانيا، بالإضافة إلى سيطرة أوكرانيا على كامل حدودها مع روسيا بحلول نهاية 2015، وهو ما لم يلتزم به قط الانفصاليون الذين يلقون الدعم الروسي حتى تاريخه، والذين أقاموا ما سميت جمهورية دونيتسك الشعبية في الإقليم، وقد أدت السيطرة على هذا الإقليم إلى نزاع داخلي، أودى بما لا يقل عن 13 ألف ضحية بالإضافة إلى نزوح زهاء مليون شخص.
لا تغفر موسكو للأوكرانيين عزل يانوكوفيتش، وتتوعدهم بمزيد من الضغوط، وزعزعة استقرار هذا البلد
وسبق أن حدث في بلد آخر، هو جورجيا، تشجيع روسي على انسلاخ إقليم أبخازيا، والاعتراف به دولة قائمة، وكذلك الإقليم المسمى آستونيا الجنوبية. وقد جاءت التطورات في أوكرانيا عقب انتفاضة شعبية أطاحت رجل روسيا، فيكتور يانوكوفيتش، الذي كان يضع العقبات تلو العقبات أمام انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي (ومنها مطالبته الاتحاد بدفع عشرين مليار دولار للحكومة الأوكرانية تشجيعا لها على الانضمام!)، على الرغم من المطالبات البرلمانية والشعبية بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد القاري. ومنذ ذلك التاريخ، لا تغفر موسكو للأوكرانيين عزل يانوكوفيتش، وتتوعدهم بمزيد من الضغوط، وزعزعة استقرار هذا البلد. وذلك على شاكلة الحرب التي شنها الروس على المدنيين السوريين والمرافق، انتقاما لقيام ثورة على النظام في دمشق، وعلى غرار التدخل الروسي في ليبيا، عبر جيش المرتزقة فاغنر، لتنصيب الساعدي القذافي المطلوب للجنائية الدولية رئيسا للبلاد، وذلك انتقاما من الشعب الذي أطاح والده العقيد معمر.. وهو ما يفسّر التحرّكات العدائية الدورية التي تُقدم عليها موسكو، لتذكير الأوكرانيين بأنهم يقعون تحت رحمة البلد الكبير، وبأن من الطبيعي أن تخضع أوكرانيا لروسيا، مثل بعض دول المنظومة السابقة، وذلك لأن روسيا أكبر بكثير، بمساحتها وعديد جيشها وبقدراتها العسكرية، وبما لا يقارن مع أوكرانيا، مع أنها في المساحة من أكبر دول أوروبا وتضم 44 مليون نسمة.
ترفض موسكو فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، وتعتبر ذلك خطوة عدائية في حال وجود قوات ومعدات أطلسية على حدودها
ترفض موسكو فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، وتعتبر ذلك خطوة عدائية في حال وجود قوات ومعدات أطلسية على حدودها. وبينما يبدو هذا الرفض على قدرٍ من الوجاهة، بالنظر إلى الرواسب الباقية والذيول المتحرّكة للحرب الباردة بين القطبين، السوفياتي والأميركي، إلا أن موسكو تنتهج سلوكا يقوم على وضع هذا البلد تحت التهديد الدائم، ورفض الاعتراف بإرادة الأوكرانيين في تدبير شؤونهم، بما في ذلك اختيار نظامهم وقياداتهم السياسية، كما تنكر على أوكرانيا الحق في ضمان سلامتها، وفي اتفاقٍ ملزم مع موسكو، يمنعها من التهديد والتحشيد وتوجيه المدافع والصواريخ إلى هذا البلد، ويضمن سلامة الجانبين وهدوء الحدود بينهما. كما تنكر موسكو على كييف الحقّ في تعاون عسكري مع أي طرف آخر، بما لا يترك أي مجال سوى إلى استدراج دعم دولي لهذا البلد في وجه الأطماع الروسية التي لا تتوقف، فمن حق كل بلد الحفاظ على سلامته ومنعته من التهديدات الخارجية.
ولا تجد موسكو، في هذه الأثناء، سوى محاولة التلاعب بالوقائع والحقائق، من قبيل إن أوكرانيا تهدد أمن روسيا، وتواظب على التصعيد، وتريد حلاً عسكريا لمشكلة الإقليم الانفصالي. وتقلب هذه المزاعم الوقائع رأسا على عقب، فالإقليم الانفصالي نشا بالتدخل العسكري والحماية المسلحة الروسية، ومن استولى بالفقوة المسلحة على القرم هي روسيا التي رفضت أيضا تنفيذ اتفاق منيسك لعام 2015، بما يكفل بسط الدولة الأوكرانية قواتها على كامل أراضيها. ومن يقوم بالتهديد هي روسيا ومليشياتها، ومن تتعرّض للتهديد هي أوكرانيا.
لا تترك موسكو أي مجال لاستدراج دعم دولي لأوكرانيا في وجه الأطماع الروسية
ومن المثير للاهتمام أن أوكرانيا انضمت لعضوية رابطة الدول المستقلة التي تضم 12 دولة، كانت تتبع موسكو، ثم استقلت، وقد نشأت هذه الرابطة في العام 1991، وبدت آنذاك بأنها إطار يضمن نشر أجواء من التعاون مع روسيا بعد استقلال هذه الدول عنهان مع التعبير عن حسن النيات. ولكن وجود هذه الرابطة لم يحدّ من التدخلات الروسية في جورجيا التي انسحبت من الرابطة، وكذلك أوكرانيا التي انسحبت بدورها بعد أن رأت من العبث أن تبقى منضويةً في هذه الإطار حيث باتت موسكو تستخدم غطاء للتدخلات الروسية الفظّة، ولتأليب الدول الأعضاء على بعضها بعضا.
ومن الواضح في غمرة ذلك أن موسكو تسعى إلى تدويل هذه القضية وفق منظورٍ يرمي إلى الاعتراف بالسطوة العسكرية أمرا واقعا، ومن أجل تجديد مناخات الحرب الباردة، واستقطاب المناوئين للسياسة الخارجية الأميركية إلى صف موسكو، ولوضع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أمام خيار حافة الهاوية، من أجل التخلي عن أوكرانيا، وكل بلد آخر يتعرّض لتهديد روسيا التي تسعى إلى بناء أمجاد امبراطورية على أنقاض الشعوب والبلدان "الصغيرة"، وبالرغم عنها، وفي زمنٍ زالت فيه الإمبراطوريات، ما عدا إمبراطورية اليابان التي لا يحكم فيها الإمبراطور.