"أهو ده اللّي صار"

08 يناير 2021
+ الخط -

انصرفت المراثي للمخرج حاتم علي، الوفيرة المستحقّة، إلى التنويه بأعماله، الاجتماعية السورية والثلاثية الأندلسية والتغريبة والتاريخية والفانتازية التاريخية، وبـ "الملك فاروق" (أحيانا)، ولم تكترث بمسلسله البدوي "صراع على الرمال" (2008)، ولا بأعماله الثلاثة الأخيرة في الدراما التلفزيونية المصرية. وفعلت هذا أيضا الصحافة الفنية العربية (باستثناء المصرية)، بل إن استعاداتٍ غزيرةً فيها لتجربة الفنان البديع، عند وفاته، خلت من الإتيان على هذه المسلسلات الثلاثة، جودةً أو تميّزا، ضعفا أو ترهلا، وهي محسوبةٌ على صاحبها، ومن المفيد التعريف بها جيدا، ليس فقط لأن حاتم علي انتقل إلى رحمة الله، بل لأنه مخرجٌ كبيرٌ ومتفرّد في الدراما العربية، وبالتالي يكون طيّبا أن يعرف الجمهور الذي أحبّ "التغريبة الفلسطينية" و"الزير سالم" (وغيرهما) ما صار عليه الأداء الجمالي لمخرجهما في طوْره المصري، وهو الأخير له.

من دون تطويل كلام، "أهو ده اللّي صار"، آخر مسلسل لحاتم علي، فاتنٌ بحق. جيد جدا، حتى لا يأخذني الحماس وأصفه بأنه ممتاز (هو كذلك لولا تفاصيل غير كثيرة). إن كان هذا المسلسل قد ظلمه، بعض الشيء، عدم عرضه في موسم رمضان 2018، فشوهد في شتاء 2019، فإن الظلم الأكثر له في تجاهل صحافة المنوّعات، العربية (غير المصرية) له، تقييما وتحليلا ومتابعة، ما يعود إلى الكسل المقيم فيها، فيما هو "إضافةٌ قيّمةٌ في مسار الدراما العربية"، كما رأته القاصة الأردنية، بسمة النسور، في مقالتها في "العربي الجديد". وهذا صحيحٌ، وما كان ممكنا أن يكون صحيحا لولا اجتماع البراعة الإخراجية، واللمسة المشهدية اللافتة في كاميرا حاتم علي، مع كفاءة عبد الرحيم كمال (1971) في كتابة نصٍّ متقنٍ في ثراء محكياته، وأيضا في مُرسلاته ومضامينه، عندما نهض على تعزيز فكرة الجمال والفن والثقافة والحب والشغف في مواجهة كل تطرّف وجهل وتخلّف وإرهاب. و"إذا اجتمع النص القوي مع الإخراج الفائق بلغ العمل غايته"، كما كتب صاحب "التغريبة الفلسطينية"، وليد سيف، في توديعه حاتم علي في "العربي الجديد" (4/1/2021).

المخرج الحاذق هو الذي يستنفر كل طاقات الممثّل الجيد وإمكاناته، والمسلسل المعنون باسم أغنية شهيرة لسيد درويش (ثم فيروز) كسب فيه الممثل الجديد نسبيا، محمد فراج (مواليد 1982) فرصة استثنائية، فشاهدنا منه أداءً تفوّق فيه على نفسه، في دور موسيقي ومغنٍ مولع بالحياة، محبّ، وطني، سيما وأن المسلسل قدّمه في أطوارٍ عمريةٍ امتدّت من اليفاعة إلى الشيخوخة. وربما يعود قولُه عن حاتم علي (قبل وفاته) إنه مخرجٌ كبيرٌ وعبقريٌّ إلى هذا الأمر الذي ينسحب، بدرجاتٍ متباينة، على ما أدّاه الممثلون الآخرون، وغالبيتهم من الوجوه الشابة، وبحضورٍ متألق للنجمة سوسن بدر، في أداء دور امرأة بلاستيكية الملامح والمشاعر، ثم عجوز ملتاعةٍ من تصاريف الزمن. ولا يُغفل أداء روبي، المرجّح أن "أهو ده اللّي صار" انعطف بها إلى منزلةٍ متقدّمةٍ في تجربتها ممثلة دراما، سيما وأن دورها في هذا المسلسل، اللافت عن حق، كان لشخصيتين، في زمن راهن وأزمنةٍ قديمة، بلهجتين، قاهرية وصعيدية. ولا تزيّد في وصف المشاهد في الصعيد في المسلسل إنها كانت من روائع حاتم علي المعهودة. ومن مفارقاتٍ أنك تشاهد إتقان "نادرة" (روبي) حماية نفسها وبنتيها من الكوليرا لمّا أخذت بتعليمات العزْل الصحي في منزلها الفقير في البلدة الصعيدية البائسة (عام الكوليرا 1947 في مصر)، وتشديدها على غسل اليدين في الأثناء (أُنجز المسلسل قبل جائحة كورونا).

.. "أهو ده اللّي صار" مقاطع متصلة من مائة عام في مصر، من 1908 إلى 2018. عن التاريخ عندما يتعلق بالناس، وينكتب عن الناس. عن الفن والتعلّق بالجمال، فترى نجوم الغناء والمسرح في مصر حاضرين شخصياتٍ مشاركة، أو في متن الحكايات الشائقة، ومنها حكاية "ريا وسكينة" بكيفيةٍ أخرى، ترى منزل كافافيس، وترى يونانيين وشواما (يظهر حاتم علي ممثلا نحو دقيقتين في إحدى الحلقات بلهجةٍ سورية) في الإسكندرية. وجاء مشهد وفاة الخادمة نادرة، بعد عزفها الأخير على البيانو في قصر نوّار باشا (متخيّل ومصمّم باحتراف عال) الذي عادت إليه سيدةً فيه، لمّا تزوجها محبوبها العتيق، يوسف الأول، كثير المغازي والإيحاءات. .. والمسلسل غزيرٌ في هذه وتلك. ولأن كل إيجاز مخلّ، لا يحسُن إيجاز عمل درامي ثقيل القيمة، بديكوراته المتقنة، وبثراء تلويناته الاجتماعية، أزياء ولهجاتٍ وفضاءات، وبالحنين الضافي فيه، بالتوازي الأخّاذ بين ماضٍ وراهن، بالتنازع بين خير وشر، بالتناوب بين فقر وغنى .. بكل شيءٍ فيه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.