أن يستعرض الاتحاد العام التونسي للشّغل قوّته
شهدت نهاية الأسبوع الماضي (السبت 2 مارس/ آذار) انعقاد تجمّع عمّالي ضخم، دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل في ساحة القصبة (أمام قصر الحكومة)، وكان الجميع ينتظر انعقاده، حتى يتمكّن من وزن ما بقي من قوة للاتحاد الذي كان يراهن على مناضليه تحديداً للانضمام إلى هذا التجمّع حتى يبدو للرأي العام، قبل السلطة، أنه ما زال قادراً على الحشد والتعبئة.
حسب بيانات الاتحاد المتتالية في الأسابيع القليلة الماضية، يأتي هذا التجمّع من أجل دفع الحكومة إلى احترام التزاماتها السابقة، والتصدّي لسلسلة من انتهاكات الحقّ النقابي سلكتها الحكومة، والمضي في الحوار الاجتماعي الذي دأب على عقده الطرفان، الحكومة والاتحاد، من أجل توزيع الزيادة في الأجر على ثلاث سنوات متتالية. لم تنقطع هذه "السُّنة الحميدة" التي كان قد دشّنها الرئيس السابق زين العابدين بن علي وقيادة الاتحاد آنذاك حتى بعد الثورة، ولم تحصل أيضاً مراجعة مبدأ هذه الزيادة، حتى والبلاد تشهد ظروفاً اقتصادية صعبة. تغيّرت أولويات البلاد: مواجهة الإرهاب، التشغيل، التنمية المحلية التي ظلت مشلولة، معدّل النمو الذي قارب الصفر سنوات متتالية.
لم يصرّ الاتحاد على هذه الزيادات من دون مراعاة تلك السياقات فحسب، بل عدّها مكسباً ضحّى من أجله. ومقابل ما غنمه من زيادات، لم يبذل الاتحاد، حسب فئات عديدة، أي جهد من أجل سِلم اجتماعي، بل ساهم، في مواقع متقدّمة، في توتير المناخ الاجتماعي، إذ قاد، خلال العقد المنصرم، تحرّكات اجتماعية في قطاعات حسّاسة، على غرار الصحة والنقل والتعليم، وهي المخالب التي كان الاتحاد يغرسها في جسم خصومه. وصلت تلك التحرّكات إلى حد رهن المرضى والتلاميذ والمسافرين، خصوصاً في أوقات حسّاسة على غرار العودة المدرسية، العطل، الأعياد، ما شوّه صورة الاتحاد بين التونسيين، وجعلته عرضة لانتقادات عديدة لاذعة. بل يعدّه بعضهم طرفاً رئيسياً في ما آلت إليه البلاد على المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
يرى الاتحاد نفسه أنه حُشر في زاوية ضيقة، وأن السلطة، وقد أنهكت الأحزاب والجمعيات، تتفرّغ له حالياً من أجل نزع مخالبه رويداً رويداً
استطاع الاتحاد التونسي العام للشغل أن يتملّص من العشرية الماضية ويساهم في شيطنتها، راكباً موجة الشعبوية التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد منذ صعوده إلى سدّة الحكم. إنه يتناسى أنه حاز جائزة نوبل للسلام (بالشراكة مع ثلاث جهات غيره) على جهده في تعزيز الانتقال الديمقرطي في تونس، وتجنيب البلاد السقوط في دوّامة العنف الأهلي. ورغم أنه ساند انقلاب 25 جويليه (يوليو)، لم يفُز برضا ساكن قصر قرطاج الجديد. ولا يُعَدّ هذا غريباً عن رئيس تتشكل قناعاته الراسخة في رفض الأجسام الوسيطة، وتحديداً ثالوث الأحزاب والنقابات والجمعيات. السبب الثاني هو التقييم السلبي الذي قد يكون انتهى إليه الرئيس، وهو يرى الاتحاد "شريكا" في العشرية التي ينعتها بأبشع النعوت.
حسب أنصار الرئيس، لم تكن تصريحات الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، ودّية، بل اعتبروها تحرّشاً بالتجربة وتطاولاً على المسار ذاته. لا يمكن نكران أن الحماسة تدفع الطبوبي، في أحيان كثيرة، خصوصاً عندما يخطُب في قواعده، إلى ارتكاب أخطاء اتصالية فادحة.
انقطعت الاتصالات بين رئيس الجمهورية والأمين العام أكثر من سنة، ولم يزر الأخير قصر قرطاج في هذه المدّة، بل بادرت الحكومة إلى إيقاف كل الاجتماعات مع النقابة، بل مرّت السلطة إلى الهجوم، حينما أوقفت عشرات النقابيين وزجّتهم في السجن، بمن فيهم قيادات جهوية من الصف الأول بتهمٍ عديدة، لعل أهمها الفساد المالي، ثم عمدت، في الأسابيع القليلة الماضية، إلى إنهاء التفرّغ النقابي واعتباره ممارسة غير قانونية. عاد مئات النقابيين إلى أعمالهم، وحُجبَت أجور الآلاف من المدرّسين، حين عمَدوا إلى شنّ إضراب وحشي السنة الماضية.
يرى الاتحاد نفسه أنه حُشر في زاوية ضيقة، وأن السلطة، وقد أنهكت الأحزاب والجمعيات، تتفرّغ له حالياً من أجل نزع مخالبه رويداً رويداً. ويبدو أن التجمّع العمالي الغفير الذي نظّمه الاتحاد يوم السبت الماضي كان فرصة للردّ على قواعده التي شكّكت في نزاهة قيادته الحالية وحنكتها. كذلك فإن الرسالة الثانية تلقفتها السلطة، أي قدرة الاتحاد على الحشد واعتباره قوّة اجتماعية ما زالت تتمتع بثقل هام.
عوّدتنا السنوات القليلة السابقة، وتحديداً منذ "25 جويلية" (2021)، حقيقةً مفادها بأن النظام حينما يشاهد مثل هذه التحرّكات التي يستعرض فيها بعضُهم قواته، ردّاً على ما يعتقد أنه تحدٍّ له، يتخذ إجراءات أكثر تصلباً وتشدّداً... الأيام المقبلة كفيلة بكشف مآلات الأمور.