أن تُرجئ الرياض مشروع التطبيع المشروط
على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي استضافته الرياض الاثنين الماضي، صرّح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، ردّاً على سؤال صحافي بالقول: "إنّ المملكة العربية السعودية والولايات المتّحدة اقتربتا للغاية من إبرام الاتفاقيات الثنائية بين البلدين، والتي تشمل اتفاقا أمنياً". وكان بن فرحان قد التقى، في تلك الأثناء، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي قال بدوره، الاثنين، في زيارته للسعودية: "قمنا بعمل مكثّف معاً خلال الأشهر الماضية... أعتقد أنّ العمل الذي كانت تقوم به السعودية والولايات المتّحدة معاً في ما يتعلّق باتفاقياتنا الخاصّة قد يكون قريباً جداً من الاكتمال".
وقد حسمت هذه التصريحاتُ التكهناتِ المتضاربةَ عن فرص التوصّل إلى اتفاق يُرضي الطرفين، ودلّلت أنّ المباحثات، التي استغرقت وقتاً طويلاً، قد أصابت نجاحاً، ولم يبق سوى وضع اللمسات الأخيرة وإعلان الاتفاق بصورة رسمية، والكشف عن جوانب تلك الاتفاقيات، مع أنّه ليس من المُقدّر إذاعةُ تفاصيلَ تتعلّق بأمور أمنية. معلومٌ أن إدارة الرئيس جو بايدن ظلّت تراهن على اتفاق مع الرياض يحدّ من توجّه الأخيرة نحو بكين وموسكو، ويُؤذن بتطبيعٍ سياسيٍ ودبلوماسيٍ مع تل أبيب، وذلك في نطاق تنافس بايدن مع الرئيس السابق، والمُترشّح الحالي للرئاسة على إرضاء تل أبيب، وردّاً على اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها. إلا أنّ تغيراً ما قد طرأ، على ما يبدو، على أجندة البيت الأبيض أملته ظروفُ الحربِ على غزّة، ومواصلة حكومة بنيامين نتنياهو نَهجَها البالغ التطرّف، والذي يشمل استفزاز الحليف الأميركي إلى درجة إشهار التحدّي في وجهه في غير مناسبة. فيما سعت الرياض، وما زالت، إلى امتحان مدى استعداد واشنطن للوفاء بمقتضيات العلاقة الثنائية التاريخية (تعمّقت خلال عقود الحرب الباردة)، وذلك بتزويد الرياض بما تحتاجه من أدوات تقنية متطوّرة، ووسائلَ دفاعيةٍ متقدمةٍ.
هناك اتفاق متبلور لا يشمل التطبيع، ولا مكان فيه لبنيامين نتنياهو
وبعد يومين على تصريح بن فرحان وتريّثه في إظهار أيّ معلومات بشأن الاتفاق الوشيك، تردّد على نطاق واسع تقريرٌ لمراسل صحيفة الغارديان البريطانية في واشنطن جوليان بورغر ذكر فيه أنّ تغيّراً حصل في معسكر بايدن، فالمسؤولون الذين كانوا مصرّين على الترابط بين الاتفاقيات الأميركية السعودية، والتطبيع السعودي الإسرائيلي، وحلّ الدولتين، أصبحوا غير ملتزمين بالموضوع أخيراً. وسيوقّع الأميركيون والسعوديون، بناءً على هذه الخطّة، سلسلة اتفاقيات بشأن معاهدة دفاع ثنائية، تساعد فيها الولايات المتّحدة السعودية على بناء مفاعلٍ نوويٍ للأغراض المدنية، مع تشاركٍ واسعٍ في الذكاء الاصطناعي، وسوى ذلك من التكنولوجيا الناشئة. إذن، هناك اتفاق متبلور لا يشمل التطبيع، ولا مكان فيه لبنيامين نتنياهو.
يحتاج الاتفاق مع الرياض إلى المرور عبر الكونغرس بمجلسيه، وإلى تقديمه اتفاقاً ثنائياً يستند إلى علاقات وثيقة بين الجانبين، ويستجيب لمصالح متبادلة ومتشابكة، من دون أن يكون جزءاً من اتفاق أوسع يشمل أطرافاً أخرى. والرسالة واضحة، لا مجال في هذه الظروف للتوصّل إلى اتفاق "طموح" من وجهة النظر الأميركية أو الإسرائيلية، ولا فرصة حالية للتطبيع بين الرياض وتل أبيب، مع ترك الباب مفتوحاً أمام نتنياهو لوقف حربه على غزّة و"الالتزام باحترام خطّة ذات مصداقية، ولا رجوع عنها، لإقامة دولة فلسطينية مستقلة"، وفق تصريحات متكرّرة للوزير بن فرحان، جديدها أخيراً في قاعات المنتدى الاقتصادي العالمي وأروقته.
واضح أنّ الرياض غدت بعد الحرب على غزّة أشدّ التزاماً بأنّ لا تطبيع مع الإسرائيليين بغير التزام هؤلاء باحترام الحقوق الفلسطينية
خلال الحرب المتواصلة، لم يتوانَ وزراءٌ في حكومة نتنياهو عن التبجّح بأن الحرب على غزّة أكثر أهمية من اتفاق مع الرياض. أما نتنياهو نفسه فقد بات "يأنف" من استخدام كلمة السلام وكأنّها مفردة نابية، فحربُه على شعب فلسطين ذات صبغة دينية، ويرغب الرجل، وفق ذلك في إفناء أعدائه، وليس في إقامة السلام معهم أو الاعتراف بحقّهم في إقامة كيانهم الوطني السيادي على أرضهم، ضمن حدود الرابع من يونيو/ حزيران (1967)، مع الادّعاء لنفسه أنّه يمكنه خوض حرب إبادة طويلة ومتوحّشة على الفلسطينيين، والتأهب في الوقت ذاته لإبرام اتفاقيات سلام مع "الجيران في الشرق الأوسط"، وهو ما لا يشايعه أصدقاؤه فيه. فقد أفادت القناة 13 الإسرائيلية بأنّ بلينكن وجّه، الأربعاء الماضي، رسالة لا لبس فيها إلى المستوى السياسي، مفادها: إذا أرادت إسرائيل التوصّل إلى التطبيع مع السعودية، فعليها التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزّة فوراً، وأنّ الوزير الأميركي قد أكّد للإسرائيليين أنّ "النافذة الزمنية للتطبيع ضيّقة ومحدودة".
من الواضح أنّ الرياض غدت بعد الحرب على غزّة أشدّ التزاماً بأنّ لا تطبيع مع الإسرائيليين بغير التزام هؤلاء باحترام الحقوق الفلسطينية، وسلوك مسار لا رجعة عنه، لترجمة ذلك على أرض الواقع (وأرض الواقع هي الضفّة الغربية وقطاع غزّة). ويبدي مسؤولون فلسطينيون مزيداً من الثقة في موقف الرياض، وينقلون تأكيدات وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان للرئيس محمود عبّاس، خلال المنتدى الاقتصادي، "نحن معكم والعالم معكم ولن نترككم". فيما تتيح الاتفاقيات الوشيكة مع واشنطن للرياض التمتّع بمزايا الدفاع المشترك كما هو الحال مع كوريا الجنوبية، وفق تقرير "الغارديان"، الذي يضيف أنّ "الجزء الثالث من الاتفاقيات يشتمل على تخفيف الولايات المتحدة قيود التصدير المفروضة على رقائق الكمبيوتر المستخدمة في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، وهو عنصر مهم في طموحات السعودية في التحوّل مركزاً تكنولوجياً للمنطقة"، وبما يجعل السعودية قوّة تنافسية في هذا المجال مع دول أخرى، من بينها الدولة العبرية التي تنحّيها الاتفاقيات الثنائية جانباً في هذه المرحلة، على أن يبقى الباب مفتوحاً أمام حكومة أخرى في تل أبيب تؤمن بخيار السلام لا بالتطهير العرقي، وتقرن الأقوال بالأفعال، للانضمام إلى الاتفاقيات، بما يعنيه من تهيئة الفرصة للتطبيع بعد أداء ثمنه المُسْتَحَقّ. من شأن هذه التطورات تعزيز القدرات الدفاعية والتكنولوجية السعودية، بما يؤهّلها لمركز تنافسي تنموي واستراتيجي أقوى في المنطقة، ومن جهة أخرى، تتيح هذه المُستجدّات التقدّمَ نحو لجم التوحّش الإسرائيلي، ومواجهة مجلس الحرب في تل أبيب، بأن الجرائم التي تُرتكب في غزّة والضفّة الغربية لن تؤدّي إلى تقويض الحقوق الفلسطينية، بل إلى عزل مُجرمي الحرب وشقّ الطريقِ نحو تمكين شعب فلسطين من التمتّع بحقوقه الوطنية، ومن صيرورة "فلسطين حرّة"، كما هتفت، وتهتف، حناجرُ وأفئدةُ حشودٍ هائلةٍ من المُحتجّين في قلب عواصم أوروبية، وفي باحات جامعات أميركية وكندية وبريطانية.