أنقرة: لماذا يتحدّانا الوزير اليوناني في دارنا؟
قبلت تركيا تغيير لهجتها وأسلوبها وطريقة تعاملها مع الملفات التي تقلق اليونان والاتحاد الأوروبي في شرق المتوسط. سحبت سفن التنقيب، وجمّدت عدة مناورات كانت مقرّرة، ووجهت أكثر من رسالة انفتاح إلى الطرفين. استقبلت الوفد الرئاسي الأوروبي أولا، لتليين المواقف، وتسهيل زيارة وزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، أنقرة قبل أيام، وكان من المفترض أن تكون استكمالية لحوار تركي يوناني جديد، بدأ قبل أشهر في بروكسل، بتشجيع أوروبي أطلسي. ولكن ما فعله الوزير دندياس كان التلويح بسيف الاتحاد الأوروبي المدعوم من إسرائيل وعواصم عربية في هذه الآونة في وجه الأتراك، وإعلانه أن بلاده جاهزة لتفعل كل ما يقال لها ويطلب منها، من أجل توسيع رقعة الاصطفاف ضد تركيا، لأنها عاجزة عن فعل ذلك وحدها أو مع القبارصة اليونان.
كان دندياس يعرف أنه يحضر إلى تركيا بعد ساعاتٍ على مغادرة وفد رسمي ليبي رفيع، لم يعلن فقط عن تمسّك طرابلس بالتفاهمات والعقود المتفق عليها مع تركيا، بل وقّع مزيدا من الاتفاقيات التي ترسخ العلاقات التركية الليبية أكثر فأكثر. خيّب الليبيون آماله أيضا بدعوة اليونان إلى توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مماثلة للاتفاقية الموقعة مع أنقرة، وهو أبعد ما يمكن قبوله في الحوار الليبي اليوناني الجديد. ويحضر الوزير دندياس إلى أنقرة أيضا، وفي ذهنه علامات استفهام كثيرة عن مسار الحوار التركي المصري، وما وصل إليه من نتائج قد تقود نحو اتفاقية ترسيم حدود بحرية، تنسف كل حسابات أثينا وحلفائها رأسا على عقب.
ولكن مفاجآت وزير الخارجية اليوناني كانت كلها من العيار الثقيل أيضا، وكأنه جاء لإعلان أن كل الخلافات اليونانية التركية في بحري إيجه والمتوسط والأزمة القبرصية ومشكلات اللجوء والأقليات لا تكفي، ولا بد من قبول لعب بلاده دور حصان طروادة كل من له حسابات يريد تصفيتها مع أنقرة، ولافتعال أزمة سياسية ودبلوماسية أكبر ثم مغادرة العاصمة التركية.
مشكلة ما في التحليل والتقدير ورسم السياسات التركية فتحت الطريق أمام أثينا وتل أبيب لتسجيل الاختراقات الإقليمية على حساب أنقرة
بعد أيام على التوتر التركي اليوناني الذي افتعله دندياس، دخلت تل أبيب على الخط لإعلان انحيازها إلى جانب أثينا، بعدما خيبت أنقرة آمالها وأهملت خطوة إعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين إلى سابق عهدها، وهو ما كانت إسرائيل تنتظره على أحرّ من الجمر. اتفاقية للتعاون والتدريب العسكري البعيدة المدى بين أثينا وتل أبيب تشرف عليها القوات الجوية الإسرائيلية لرفع مستوى تأهيل الطيارين اليونانيين، وزيادة خبراتهم القتالية، إلى جانب فتح المجال الجوي اليوناني أمام المقاتلات الإسرائيلية بعدما أغلقته أنقرة في وجهها. كان يقال لنا قبل عقد تقريبا إن على أنقرة أن تدفع ثمن تنسيقها الاستراتيجي مع إسرائيل، غير عابئة بالانتقادات العربية والإسلامية. ترفع عواصم عربية، وفي مقدمتها خليجية، مستوى التنسيق مع إسرائيل واليونان، وتوقع اتفاقيات تعاون عديدة على مرأى تركيا ومسمعها هذه المرّة. المشكلة هي ليست التنسيق العسكري الإسرائيلي اليوناني، بل انفتاح إقليمي واسع على هذا التنسيق، ودعمه والمشاركة فيه، والإعلان أن على تركيا أن تتحمّل ارتدادات فتح أبواب التعاون العربي اليوناني والإسرائيلي بتشجيع غربي.
مفاجأة يونانية أخرى كانت بانتظار أنقرة، حيث استغرب الرئيس التركي، أردوغان، كيف تقرّر الرياض إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع اليونان تحت عنوان "عين الصقر 1" في شرق المتوسط قبل أسابيع، وفي الوقت نفسه، تريد عقد صفقة شراء مسيّرات تركية، وهذه المرة عليه أن يستغرب أكثر، فجديد ما تابعناه من الخليج استقبال وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، وزيري الخارجية والدفاع اليونانيين، نيكوس ديندياس ونيكوس بانايوتوبولوس، فالرياض تريد شراء منظومة باتريوت الأميركية من اليونان نفسها، لتتولى مهام حماية أهم منشآت النفط في المملكة، بينما عجزت تركيا عن الحصول على صفقة غربية لامتلاك هذه الصواريخ الدفاعية التي كانت توجد على شكل "أمانة أطلسية" فوق أراضيها. والملفت كان تأكيد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، نايف الحجرف، حرص المجلس على توقيع اتفاقيات التعاون السياسي والعسكري والتجاري مع دولة صديقة، بهدف تحقيق المصالح المشتركة. وكانت أنقرة تردد قبل أعوام إن أمن الخليج جزء من أمنها. .. واليونان وإسرائيل هما من يفعلان ذلك اليوم، عاملا مساعدا على ضمانة استقرار المنطقة وأمنها. هناك مشكلة ما في التحليل والتقدير ورسم السياسات التركية فتحت الطريق أمام أثينا وتل أبيب لتسجيل كل هذه الاختراقات الإقليمية على حساب أنقرة.
يظهر الجانب اليوناني مرة أخرى أن أثينا غير راغبة في إطلاق أي حوار ثنائي حقيقي مع تركيا
في مكان آخر، يقول أردوغان: "نتابع تطورات الأوضاع في شرق المتوسط عن كثب، فتركيا صاحبة القرار في هذه المنطقة، ولا يمكن لأي مبادرة أن تتكلل بالنجاح بمعزل عنها". في المقابل، يقول دندياس، بشأن ما يتعلق برفض بلاده اتفاقية ترسيم الحدود التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، إن هذا الموقف ليس قرار اليونان فقط، إنه "الرأي المدروس المدعوم من جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 27 دولة، المذكرة ملغاة وغير شرعية ولا يمكن أن تسفر عن نتائج قانونية". ويكرّر على مسامع الأتراك إن عليهم قبول اتفاقيات قانون البحار الموقعة عام 1982، لأن الاتحاد الأوروبي صادق عليها، وأصبحت جزءا من المكتسبات الأوروبية الواجب تبنيها لكل من يريد أن يكون عضوا في هذه المجموعة.
الإنجاز اليوناني الثالث، والذي لا يمكن فصل توقيت إعلانه عن التطورات المتلاحقة على الجبهة التركية اليونانية، كان الاجتماع التنسيقي الرباعي الذي عقد في قبرص اليونانية، وضم أيضا وزيري خارجية اليونان وإسرائيل ومستشار رئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش. واتفق خلاله الوزراء على تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والأمني، ورسم سياسات "الوجه المتغير" للشرق الأوسط كما قيل. ووصف وزير خارجية قبرص اليونانية، خريستو ذوليديس، الاجتماع بأنه يحمل أهمية رمزية، لأنه لقاء "بين دول لديها عقلية واحدة، ويأتي بعد الاتفاق التاريخي بين الإمارات وإسرائيل". والملفت أكثر استنتاج وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكينازي، لحصيلة الاجتماع، بقوله "هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة تمتد من سواحل الخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا".
ستحاول أثينا، مع شركائها، إقناع القاهرة بما يريدونه، وما سيفعلونه مع تركيا في المرحلة المقبلة
يظهر الجانب اليوناني مرة أخرى أن أثينا غير راغبة في إطلاق أي حوار ثنائي حقيقي مع تركيا. وإنها تريد الاستفادة من تدهور علاقات أنقرة مع عواصم إقليمية عديدة، معولة على مزيد من الدعم الأميركي والأوروبي والإقليمي لها في هذه المنازلة. وإنها تسعى إلى إضعاف الموقف التركي خلال محادثات جنيف المرتقبة في أواخر شهر أبريل/ نيسان الحالي، لبحث ملف الأزمة القبرصية الذي أوصله القبارصة اليونان عام 2004 إلى طريق مسدود، بعد التخلي عن خطة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي أنان، للسلام في الجزيرة. حتى ولو تخلت تركيا ومعها القبارصة الأتراك عن التمسّك بحل الدولتين في الجزيرة، وقبلتا حلا كونفدراليا على الطريقة البوسنية اليوم، فإن ما يقوله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، هو الحل الفدرالي وحده. من يساعد اليونان على التخطيط هو الفريق الغاضب من تحريك تركيا ورقة قناة إسطنبول، الاستراتيجية البعد، بعد امتلاكها منظومة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية "إس – 400"، التي بسببها أوقفت واشنطن وجود الجانب التركي في فريق تصنيع المقاتلة "إف – 35 " وبيعها واقتنائها. ويبقى أن خيارات تركيا اليونانية والقبرصية سيحدّدها مسار علاقاتها بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ستحاول أثينا، مع شركائها، إقناع القاهرة بما يريدونه، وما سيفعلونه مع تركيا في المرحلة المقبلة. لذلك انتقل وزير الخارجية اليوناني السريع إلى العاصمة المصرية، في محاولة لمعرفة مسار مفاوضاتها مع أنقرة، وطمأنتها أن حصتها محفوظة في هذه التركيبة الإقليمية الجديدة، بعد إغضاب مصر من خلال تجاهلها في تحالف يوناني قبرصي إسرائيلي بشأن استثمارات ضخمة في مجال الطاقة الكهربائية بين الأطراف الثلاثة. هدف هذه الطاولات الإقليمية هو إخراج تركيا من قبرص، وإنهاء وجودها ونفوذها في ليبيا وإضعافها في شرق المتوسط وقطع الطريق على فرص التحاقها بالمجموعة الأوروبية، ومحاولة تفجير علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإلزامها بروسيا والصين وإيران.