أميركا من خرم إبرة

11 نوفمبر 2020
+ الخط -

المصلحة معيار رئيس في الخيارات السياسية للأفراد والمجموعات، أو هكذا يُفترض أن تكون، على حساب الأيديولوجيا والشعار اللذين غالباً ما يطمسان الإنسان، ويُعليان شؤون "القضايا". بقدر ما قد تحمل تلك الخلاصة من إيحاء بأولوية الفائدة المباشرة والضيقة في الفعل السياسي، خصوصاً اقتراعاً في بلدانٍ ليبرالية تحظى فيها الانتخابات بقيمة حقيقية، بقدر ما يمكن توسيع الزاوية للتنبه إلى وجود ما يمكن تسميته فائدة عالمية شرّعت العولمة أبوابها، وربطت سكان الأرض بها، لتغدو المكاسب الكونية مصلحة للفرد في الآن نفسه. فعندما يكون العالم بحال أفضل، قِيَمياً وبيئياً وصحياً واقتصادياً، لا بد أن يطاول الفرد، أينما كان، شيء من نتائج هذا "الأفضل". وأن يعدّ دونالد ترامب آخر أسابيعه في رئاسة أقوى بلد على الكرة الأرضية، فلا بدّ أن ينعكس ذلك تحسناً أكيداً وإن استحال تقدير مداه لأحوال هذا الكون. كلام يبقى تافهاً بالنسبة لكثيرين، ومنهم عرب، من مدمني التعاطي مع شأن عالمي كالانتخابات الأميركية انطلاقاً من إحدى الأنشودات الثلاث: الأولى لا تمل من تكرار لازمة: اللهم اضرب الظالمين (الأميركيين) بالظالمين (الأميركيين أيضاً). الثانية تسأل بسذاجة: ماذا أستفيد لو فاز دونالد ترامب أو جو بايدن؟ الثالثة تختصر ما يحمله الرأيان السابقان من عبثية ممزوجة بتفلسف: لا قيمة للهوية الشخصية والحزبية لقاطن البيت الأبيض ولا لتاريخه ولا لبرنامجه الانتخابي ولا للفئات الاجتماعية التي أوصلته إلى موقعه، فالسياسات الأميركية تقررها قوى خفية يكتفي الرئيس بتنفيذها!

أمام سينيكية معمّمة من هذا النوع، يصعب إكمال أي سجال مفيد. لكن لحسن الحظ، هذه اللوثة تتضاءل مساحتها على ما يبدو عربياً، بدليلين اثنين: ارتفاع نسبة تصويت المواطنين الأميركيين ــ العرب في الاستحقاق الانتخابي، وازدياد الاهتمام في أوساط الرأي العام العربي بالموعد الأميركي. صحيح أن نسبة المصوتين الأميركيين المسلمين (لا أرقام عن الأميركيين العرب عموماً أو أنها لم تظهر في البحث السريع) لدونالد ترامب زادت هذه السنة، من 13 في المائة في 2016 إلى 17 في المائة في 2020، في مقابل 69 في المائة لجو بايدن، إلا أن الأساس يبقى الانخراط في الاستحقاق تقديراً لأهميته، وخروجاً من غيتو يستوطن العقل قبل أن يحاصر الفرد في مساحة جغرافية مغلقة.

ولوثة النظرة بسلبية من خرم إبرة إلى الانتخابات الأميركية لا تقتصر على العرب، لكنها تطاولهم بشكل خاص نظراً إلى أنهم من بين أكثر المتأثرين بالسياسات الأميركية الخارجية. للفلسطينيين والسوريين والمصريين أن يقيسوا الاستحقاق بالأثر المباشر على قضاياهم التي لم تشكل يوماً أولوية في أجندات الرؤساء الأميركيين، لكن من دون أن ينسوا أنه يصعب أن يحصل أسوأ مما مارسه دونالد ترامب. لهم أن يضعوا شؤون بلدانهم في المرتبة الأولى وهم متيقنون من أن أميركا، حين تكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية، وأكثر اعتدالاً وإنسانية، وأقل تطرفاً وتوحشاً وعنصرية وتجاهلاً لتحديات البيئة والصحة والأوبئة، وأكثر حساسية حيال مسائل التنمية وأقل يمينية، فإنها لا بد أن تعود على أحوال العالم، والعرب منه، بشيء من التحسن.

عندما انتُخب دونالد ترامب في ذلك الخريف الأسود من عام 2016، كان العونيون في لبنان أقرب إلى الماكينة الانتخابية المجانية للرجل في بلدهم وفي أراضي انتشارهم (مثلما يحبون تسمية الهجرة) الأميركية. يومذاك، طبلوا رؤوسنا بفوائد أسوأ رجل أنجبته أميركا على قضايا "المشرقيين" والمسيحيين. بعد أربع سنوات بالتمام والكمال، شاءت أقدارهم العاثرة أن يودّعهم ترامبهم نفسه، في يوم خسارته، بضم نجمهم جبران باسيل إلى لائحة العقوبات الأميركية كشخصية "مساهمة في نظام الفساد... ومساعدة ومسهّلة لأنشطة حزب الله المزعزعة للاستقرار". لعلها تكون عِبرة للناظرين إلى كل حدث من خرم إبرة لا يفتح الرؤية إلا على ظلمة دامسة.

اللهم لا شماتة.