أميركا تستيقظ: ترامب يتاجر بالدين
لا تبدأ الخفافيش وأسراب البوم في الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله، هكذا قال حكماء الإغريق.
ولا يجد أمثال عبد الفتاح السيسي أنفسهم إلا في ظلمات العصور الوسطى التي استدعاها دونالد ترامب، لتخيّم على أميركا والعالم.
ترامب وأتباعه، من الطغاة الأصغر والأرخص، في منطقتنا العربية، يتاجرون بالدين، أسوأ تجارة، ويستثمرون في التعصب الديني أبشع استثمار، فيدفعون الكون كله إلى الانتحار، شنقاً، باللافتات الدينية.
يرتدّ ترامب بالولايات المتحدة إلى عصور الظلام الدامس في تاريخ البشرية، يسلك وكأنه أحد الغزاة القادمين مع كريستوفر كولومبوس إلى الأرض التي سميت فيما بعد "أميركا" من أجل الذهب والمال والمسيح.
يستدعي هذا المعتوه كل تراث حروب الإقصاء والإبادة من التاريخ المعتم، ويقود بلاده، والدنيا بأسرها، إلى صدام الحضارات والأديان والأعراق، الأمر الذي يثير فزع الأميركيين أنفسهم على ما أنجزوه خلال أقل من قرنين ونصف القرن، منذ استقلت المستعمرات عن بريطانيا وصارت دولةً لها رئيس.
ترامب لا يسعفه جهله بالتاريخ، ليعلم أنه هو شخصياً مهاجر، ابن مهاجر، حفيد مهاجر، إلى القارة التي اكتشفها الأوروبيون، المستعمرون، قبل خمسة قرون، وربع القرن. ولا يدرك، وهو يفتتح معركته العنصرية البغيضة ضد المهاجرين من العرب والمسلمين، أنه أيضاً دخيل على الجغرافيا، وعلى التاريخ الذي تأسس على أنقاض حضارةٍ أخرى، وشعب آخر، تم القضاء عليه، هو شعب الهنود الحمر.
في كتابه المهم "فتح أميركا: مسألة الآخر"، والذي ترجمه للمكتبة العربية الباحث المصري بشير السباعي، سنة 1992، يتوقف الناقد الأدبي البلغاري الفرنسي، تزفيتان تودورف، عند مفارقة تاريخية مدهشة، حين يشير إلى أن العام 1492 هو الذي اكتشف فيه كولومبس "الآخر" الهندي الأحمر الساكن في القارة التي سميت أميركا فيما بعد، فقرّر القضاء عليه، وممارسة تطهير عرقي لتثبيت واقع ديموغرافي جديد. وهو العام ذاته الذي بدأ فيه مسلسل طرد "الآخر" من أوروبا، فهو العام الذي سقطت فيه غرناطة، وبدأت إسبانيا في التخلي عن أندلسيتها، والتنكّر لرافدها العربي والإسلامي، وقامت بترحيل كل من شكل آخر في عرفها، مسلماً كان أو غير ذلك من الأقليات الدينية والعرقية.
الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تأسّست على المهاجرين، القادمين من كل مكان في العالم، ليشكلوا، معاً، الحلم الأميركي في التعايش والبناء والتحضّر والقوة، من دون أن تغلق هذه القارة أبوابها في وجه أحد، بل تقول دوما: هل من مزيدً من القادمين.
والذين صنعوا مجد أميركا، أيضاً، مزيجٌ مدهشٌ من الثقافات والأعراق والألوان والديانات، لا فضل لأحدٍ على أحد، إلا بالعلم والتفوق والنبوغ في العمل، ومن ثم تبدأ هذه القارة في التحلل، إن هي استسلمت لما يريده لها دونالد ترامب، بحيث تصبح، من جديد، غاباتٍ مفتوحةً تتصارع فيها وحوش العنصرية والإبادة والإقصاء.
عندما دخل الغزاة المستعمرون، أجداد ترامب في العصور المظلمة، إلى أرض أميركا، تعاملوا مع إنسانها الأصلي، باعتباره جزءًا مكملاً للطبيعة، وليس وجوداً إنسانياً يُحترم، فأوسعوه قمعاً وتنكيلاً وإبادة، وقتلاً للرجال واغتصاباً للنساء، حتى جاء من يصنعون حياةً جديدة، تقوم على مفردة التعايش واحترام حق الحياة، لكل إنسان، بما هو إنسان، وليس بما هو حليفٌ أو شريكٌ أو صديق.
بذلت الولايات المتحدة الكثير من الدم والكفاح، لكي تتخلص من ميراث القهر، وتخرج من ظلام العصور الوسطى. وكما يذهب محتوى كتاب "فتح أميركا"، فإن القهر لن يتم محوه بقهرٍ آخر، أي من خلال انتقام حضاري، وتعادل الانتهاك بانتهاك مقابل، فالمرأة من هنود المايا (سكان أرض أميركا الأصليين) التي ألقيت للكلاب، لأنها رفضت أن تستجيب للغازي وتطاوعه، لن تسترجع حقها بتقديم امرأة إسبانية فريسة لكلاب المايا.
يدشّن ترامب زمانه بالكراهية الدينية، والعنصرية الوقحة، ويريد استئناف صراعٍ ديني قديم، يتوهم أنه يستطيع، من خلاله، تحقيق مكاسب مادية للامبراطورية المرهقة، فيتاجر بالدين داخل حوانيت السياسة والاقتصاد. تماماً كما غلف جد الغزاة الأكبر، كريستوفر كولومبوس، مشروعه للعثور على الذهب والمال في الأرض البكر، بشعارات الدين المسيحي، فتقرأ في رسالته إلى البابا ألكسندر السادس، سنة 1502 "رحلتي القادمة سوف تكون لمجد الثالوث المقدس، ولمجد الدين المسيحي المقدس .. أتمنى من ربنا أن يهبني القدرة على نشر اسمه المقدس وإنجيله في أرجاء الكون".
أميركا الحقيقية هي التي تراها في وجوه مواطنيها الذين زحفوا إلى المطارات، مرحبين بالمهاجرين المسلمين والعرب، في تحدً للقرار العنصري، بمنعهم من دخول البلاد. أما دونالد ترامب فهو خرقة بالية من مخلفات القرون الوسطى، يعي الأميركيون أن بقاءها بينهم سيقود قارتهم إلى الفناء، وأظن أن أميركا الآن تستيقظ من كابوس ترامب، مبكراً جداً، قبل أن يخنقها، ويشوّه معالم الحلم الأميركي.