أميركا الإبادة والإغاثة في غزّة
تسارعت، في الآونة الأخيرة، محاولات واشنطن لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة. وبالتوازي مع عمليات الإنزال الاستعراضي لأكياس الطحين من الجو، جرى الإعلان عن إنشاء جسر بحري للمساعدات، بين جزيرة قبرص والقطاع. وستتولى الولايات المتحدة التنفيذ، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وأطراف إقليمية. والهدف إغراق القطاع بالأغذية بحدود مليوني وجبة يوميا، حسب تصريحات مسؤولين أميركيين. ورغم الضجّة الكبيرة من حول المسألة، وزيارات المسؤولين الغربيين لاستطلاع الإمكانات اللوجستية، ليس الأمر وشيكا، ويحتاج شهرين، حتى يصبح قيد العمل، إذا سار كلُّ شيءٍ حسب المخطّط المرسوم. وهذا يعني أن الآلية المعمول بها سوف تستمرّ إلى ذلك الحين، وهي، في كل الأحوال، قاصرةٌ، بسبب الحصار الاسرائيلي، وفي ظلّ استمرار حرب الإبادة والتدمير الاسرائيلية، ولا تلبّي الحاجة التي تكبر كل يوم إلى المواد الغذائية والطبّية والخيام. ومعروفٌ أن الفكرة ليست جديدة، وسبق طرحها منذ أشهر، ولكن واشنطن وقّتتها، مع بلوغ الوضع الإنساني مرحلة صعبة غير مسبوقة، وقد بات يهدّد بكارثة وشيكة، ولم يعد من الممكن تجاهله، أو القفز عليه، خصوصاً وأن المجاعة بدأت تنتشر في القطاع، وهناك وفيات بين الأطفال بسبب سوء التغذية.
تشكّل الإغاثة في هذا الظرف حقّاً من حقوق أهل غزّة الذين جرى تدمير منازلهم، ومصادر عيشهم، ومرافقهم الحيوية، بما في ذلك المشافي. وتتحمّل الولايات المتحدة مسؤوليةً لا تقلّ عنها في حالة إسرائيل، لما آل إليه الوضع، كونها هي التي وفّرت، حتى الآن، التغطية الدبلوماسية للحرب، وحالت دون التوصّل في مجلس الأمن إلى قرارٍ لوقف إطلاق النار، وأمدّت إسرائيل بالأسلحة الفتّاكة. وبالتالي، ما تقوم به من عمل إغاثي أقلّ بكثير مما يتوجب عليها. ولا تقف مسؤوليتها عند تقديم المساعدات، بل تذهب إلى إعادة الإعمار في مرحلةٍ لاحقة. ومهما حاولت واشنطن أن تُسبغ على عملها صبغة إنسانية، فإن هناك وعياً بأنها تلبس قناع الإغاثة الإنسانية، الذي يتعذّر أن يخفي أحد أبرز أهداف قرارها من إنشاء الجسر البحري، بامتصاص جزءٍ من ردود الفعل على حرب الإبادة، والإمعان في تمييع القضية، وتحويلها من مسألةٍ سياسيةٍ، تمثل آخر شكلٍ للأبارتهيد، إلى قضية إغاثية، وفق مقاييس أميركية إسرائيلية، لا تشارك فيها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهذا ما يفسّر الحرب ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ويأتي قرار تصفيتها إسرائيليا وأميركيا، بوصفها شاهدا على استمرار النكبة. ولا يخفى على أحد أن واشنطن تقوم بهذا العمل الاستعراضي، وهي تدرك أنه ليس الطريق الصحيح. ببساطةٍ، هناك حلٌّ آخر أكثر جدوى ومصداقية، ذلك الذي يقوم على وقف إطلاق النار، وفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية. وهذا أقلّ كلفةً من ناحية حقن دماء المدنيين في غزّة. وقد أكّدت منظمّات إنسانية دولية عديدة على أن المشكلة الحقيقية هي الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزّة، واستخدام القوة غير المتناسبة، في حين أن المواد الغذائية والمياه والإمدادات الطبية التي يحتاجها الفلسطينيون موجودة على الحدود، ولو كانت واشنطن جادّة، لضغطت على إسرائيل من أجل السماح بوصولها إلى قطاع غزّة.
المسألة سياسية، وليست لوجستية، وجاء طرحها من الرئيس جو بايدن في خطاب حال الاتحاد السنوي، دليلاً على أن الوضع في غزّة يشكّل قضية مهمّة في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وتفيدُ تقديرات بأن الرئيس الأميركي معرّض لخسارة أصوات قطاعات مؤثرة، وبالتالي، هو مضطرٌّ أن يأخذ هذه الورقة في حسابه، ويعمل في سباق الوقت من أجل احتواء تداعياتها، قبل بدء حملة الانتخابات في الصيف المقبل.