ألمانيا وتحدّي ما بعد ميركل
النتيجة الوحيدة التي نعرفها عن الانتخابات الألمانية التي ستجري اليوم الأحد، 26 سبتمبر/أيلول، أن ألمانيا تبحث في هذه الانتخابات عن مستشار جديد، فقد أعلنت أنجيلا ميركل أنها لن تترشّح! وهو حدثٌ لم تشهده ألمانيا منذ عقود، بأن يكون المستشار الحالي غير مرشّح للمنصب نفسه في الانتخابات التالية. وميركل تشغل هذا المنصب في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2005، وهي أول امرأة تحتله في تاريخ بلدها، وتلك سابقة تسجل لصالح ميركل التي اختارت أن تتراجع إلى الصفوف الخلفية، وتتوارى عن مضمار السياسة، بعد 16 عاما في منصب المستشار، و18 عاماً رئيسة للحزب المسيحي الديمقراطي.
تأسّس حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي بعد شهرين من سقوط برلين عام 1945، لكن الحلفاء الذين تولّوا السلطة في ألمانيا، بعد اختفاء هتلر، لم يسمحوا لألمانيا بقيادة ذاتها حتى 1949... تشكل الحزب من طبقة بورجوازية ممن كانوا معادين للنازية، أو مقاومين للشيوعية، ومثّل تيارا محافظا قاد ألمانيا عقودا. لكن الحزب الذي يصف نفسه محافظا، ويظهر وجها تقليديا، لم يكن كذلك على الدوام، خصوصا خلال سياسات ميركل تجاه الهجرة، فقد أبدت رغبة جامحة في ضم اللاجئين وإعطائهم فرصة جديدة، لكن سياساتها لم تُظهر حرصا مماثلا على مواجهة الديكتاتوريات التي أنتجت هذا الكم الكبير من اللاجئين. وقد حصلت داخل الحزب تساؤلاتٌ مع نهاية فترة ميركل الأولى، في ما إذا كان الحزب محافظا، فأجابت المستشارة بأنها أحيانا محافظة، وأحيانا ليبرالية، ومسيحية اجتماعية أحيانا أخرى، وهذا جوهر الحزب المسيحي الديمقراطي.
تشهد انتخابات 2021 منافسةً حادّة بدخول حزب الخضر حلبة السباق الانتخابي، وهو يشعر بثقةٍ جعلته لأول مرة يقدّم مرشحا لمنصب المستشار. ويحتل عادة هذا المنصب رئيس الحزب الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد، واعتمادا على نتائج الاستطلاعات، يرى حزب الخضر نفسه قريبا من الفوز بالمركز الأول، الأمر الذي جعله يقدّم مرشّحا لمنصب المستشار. المنافس الآخر حزب يميني متطرّف يُدعى حزب البديل من أجل ألمانيا، وكان قد دخل البوندستاغ (البرلمان) الألماني أول مرة في انتخابات عام 2017. ويبدو أن سياسات ميركل الإنسانية لم تُرضِ، بشكل كاف، جانبا من الجمهور الألماني الذي ردّ بإعطاء بعض الأصوات لحزب يميني، يقف ضد هذه السياسة، وترشّحه استطلاعات الرأي، ليحصد أكثر من 10% من الأصوات، وهي نسبة قريبة من النسبة التي يملكها حاليا.
أعطى وجود ميركل في المنصب مدة طويلة استقرارا لألمانيا ولأوروبا في الوقت ذاته، وقد شهدت تلك الفترة أزماتٍ اقتصادية في دول الجنوب الأوروبي، والخروج البريطاني من الاتحاد، فمارست ميركل قيادة هادئة ومتعقلة، وراكدة أحيانا، بالحفاظ على ما تحقق، ومحاولة تعزيزه وترسيخه أطول فترة ممكنة، ما يجعل الآن انتظار شخص آخر لموقع المستشار موضع تخوّف، وربما قلق... لم تجازف ميركل في الدخول في مغامرات تغيير، بل كان جهدها الكبير يبذل للحفاظ على الوضع الراهن، وهو الرهان الذي نجح، وساعد في ترسيخ وجودها خلال الأعوام الستة عشر الماضية.
قدّمت ميركل ألمانيا بوصفها قوة توفيق ومصالحة وتيارا اعتداليا، ولم تظهر كزعامة متسلطة طامعة في مراكز قيادية مهيمنة، وتحفظت في طرح البرامج الطموحة، ولم تدخل طرفا منافسا مع أحد، بل أبقت نفسها على مسافةٍ متساويةٍ من الجميع. كان ذلك الخيار موفقا لدولة كألمانيا، عانت طويلا من صداع أوروبا، وكانت جزءا منه، فدفعت من حضارتها وتنميتها... التحدّي أمام المستشار الجديد أن يبقي ألمانيا كما هي، من دون تغييرات عميقة، تطيح كل ما أنجزته ميركل، وتطيح موقع ألمانيا الرائد في الوسط الأوروبي الذي يبقيها فيه الحرص على الاستقرار والمحافظة على كل شيء كما هو.