أفكار أولية في العلاقة بين الظاهرتين الدينية والسياسية
عمد الباحث المرموق، محمد حلمي عبد الوهاب، إلى الإسهام في رسم خرائط الإصلاح والتجديد في الفكر العربي، وقدّم في ذلك أطروحة جديرة بالرصد والتحليل والتعليق؛ في كتابه "النهوض العاثر: الإصلاح والتجديد في الأزمنة الحديثة"؛ (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2020)، في ثلاثة أقسام، الأول بعنوان، "إصلاح مؤسسات المجال الديني"، والثالث "في الأصولية والأصولية المضادة: العيش المشترك وقضايا الأقليات الدينية"، والثاني في صلب رسم خرائط الإصلاح، محل اهتمام المقال، "تجارب الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي".
تناول الكتاب تجارب وخبرات متنوعة ومتفاوتة زمنيا، عبرت بصورة مباشرة عن عنوانه، فقد جمع بين مالك بن نبي ومحمد عبده وفرح أنطون وأبو الأعلى المودودي، ومع ذلك فإن الأمر يسع أن نقول إن استهلال الكتاب بالحديث عن "إصلاح المؤسسات الدينية" وخاتمته بالحديث عن "الأقليات الدينية" يعدّ نوعا من التأشير والتوجيه على المشكلة الرئيسية التي يراها الكاتب سببا في النهوض العاثر، وهو أمر يحتمل الكثير، خصوصا وأن العلوم الاجتماعية لا يمكن التعويل فيها على ذلك العامل الديني في مثل هذه الأمور.
ربما يعود تعثر عملية النهوض إلى طبيعة المشاريع الإصلاحية التي قدّمت في هذا المقام، والنسب المختلفة التي تتعلق بمجالاتها، والاهتمام بمفصل أساسي بعينه في عملية الإصلاح، كما تشير إلى ذلك تجارب الإصلاح الناهضة؛ مثل التي اتخذت من التعليم مدخلا مهما في خبراتها النهضوية، وكذلك مثل نماذج أخرى، قامت على الحزم في مقاومة الفساد، فشكّل هذا أو ذاك رافعة لمجالات تنموية أخرى، فحقّقت عائدا نهضويا مناسبا ضمن مشروعها الحضاري والتنموي؛ وذلك كله من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند التأشير على تلك العوامل التي تشكل مسألة التدين، إلا أن هذا الاستهلال وهذا الختام الذي تمثل، في قسميه الأول والأخير، ربما قد يشير من طرفٍ خفيٍّ إلى أن الإشكالية الرئيسية المعيقة للنهوض والمؤسِسة للتخلف إنما تعود إلى المؤسَّسة الدينية دينا وتدينا، وهو تعميم يجب الحذر منه. وتلميحا قد يظهر مواقف أيديولوجية مسبقة مضادّة للظاهرة الدينية والمؤسّسات المختلفة التي تقوم بالتأثير فيها.
ربما قد يشير الكتاب من طرف خفي إلى أن الإشكالية الرئيسية المعيقة للنهوض والمؤسِسة للتخلف إنما تعود إلى المؤسَّسة الدينية دينا وتدينا، وهو تعميم يجب الحذر منه
يمكن أن يشكل هذا الموضوع قضية محورية في تلك الخرائط الموضوعية التي تتعلق بمفاصل المشروع النهضوي، سواء العوامل التي تؤدي إلى تقدّمه، أو التي تؤدي إلى تعثره، خصوصا حينما تتجلى ضمن مؤسسات معينة، وهو من الموضوعات التي تستأهل منا توقفا مطولا، ولكن في أوانه، حينما نتحدّث عن مكونات تلك المشاريع الإصلاحية ومفاصلها الأساسية والعوامل التي أدّت إلى إيجابياتها في التأثير؛ أو أدت إلى آثار سلبية في مآلاتها، وهو ما رسم مستقبل تلك المشروعات النهضوية وقصور عوامل الفاعلية فيها، ولعل ذلك يرتبط بقضايا أخرى يجب الوقوف عندها، مثل علاقة الظاهرة الدينية بالظاهرة السياسية، خصوصا حينما نشير إلى تلك النظم الاستبدادية، والتي تقوم على توظيف الدين أو تأميمه ضمن مسارات تحكّمها وسيطرتها وهيمنتها والحفاظ عليها.
ولعل الحالة المصرية الآن تمثل تجليا في ذلك المقام ضمن ذلك المشروع الانقلابي الذي حدث من نظام 3 يوليو في مصر، حينما اتخذ محضنا وظهيرا دينيا لتمكين استراتيجياته وتشييد سياساته المتعلقة بالدين والنظر إليه، وهو أمرٌ لا تخطئه عين. ولا يمكن، في هذه الحال، أن يردّ إلى المجال الديني، وإنما يرد بالأساس إلى تلك المنظومة الاستبدادية التي تختطف كل المجالات، وتجعلها تحت هيمنتها، وتحاول تشكيلها على النحو الذي يؤمن سلطانها وطغيانها. ولعل ذلك قد يفسّر أيضا ما قد نراه من الدعوة الخطيرة من نظام 3 يوليو، حينما يحاول أن يتدخّل حتى في شؤون الأحوال الشخصية، فيجعلها محلا لتحكّمه، ومصدرا لجبايته، من مثل ما شهدناه، في الآونة الأخيرة، من التلويح بفرض رسوم للزواج، وما سبقها من جدلٍ شديدٍ عن شكل الطلاق والإجراءات المتعلقة به، وما يجري حوله من نقاشٍ متجدّدٍ في هذا الباب، وهو أمرٌ، رغم أن مؤسّسات دينية قد تسانده، فإن مؤسّسات دينية أخرى، مثل الأزهر، اختلفت، في بعض هذه الأمور التي يريدها النظام، ويلوّح بها ضمن تصوّراتٍ تتعلق بقانون الأحوال الشخصية.
يحاول نظام 3 يوليو أن يتدخّل حتى في شؤون الأحوال الشخصية، فيجعلها محلاً لتحكّمه، ومصدراً لجبايته
فضلا عن ذلك، لا يزال الأمر الذي يتعلق بتجديد الخطاب الديني محلا لخلافٍ بين مؤسسة الأزهر وما تتصوّره المؤسسة السياسية التنفيذية، والتي تساندها أبواقٌ إعلاميةٌ متهمة الأزهر بكل صنوف الاتهامات، في محاولةٍ لحصار تلك المؤسسة في التعبير عن مواقفها ضمن رؤيتها التي تحاول، بقدر الإمكان، أن تمثّل التزاما بصحيح الدين، وهو أمر أشار إليه الكاتب في دراسته "الزحف غير المقدس.."، إذ تختلف مؤسسة مثل الأزهر مع مؤسسات سياسية أو دينية أخرى في مناخ يتسم بالنيل من الرموز الدينية من شخصياتٍ ثقافيةٍ معروفةٍ بأنها تساند نظام 3 يوليو ومنظومته الانقلابية. وأيا كانت تلك التقييمات المختلفة التي تتعلق بهذا الشأن، فإن ما يحدُث على أرض الواقع إنما يشكل تدافعا حقيقيا بين جانب من المؤسسات الدينية التي تحاول ضبط إيقاع سلوك التدين في مصر والحفاظ على الرموز الدينية الأساسية ومؤسّسة سياسية يساندها بعض المثقفين، يقومون بمناوشات دورية ضمن تلك المشاهد التي تتعلق بإلهاء عموم الناس عن المشكلات الحقيقية التي تتعلق بمعاشهم، وبحقيقة الأزمة الاقتصادية الحالية في بر مصر.
لعل هذه الصورة الأولية بشأن قيم نظام 3 يوليو في مصر وسياساته وإجراءاته، وحركته التي صاحبها خطاب حول تصوّر حركة الدين في حياة الناس، بما يشكل، في حقيقة الأمر، تصوّرا قمنا من قبل بتحليله ضمن ما أسميناه الظهير الديني لنظام 3 يوليو، وذلك كله تحرّك، في حقيقة الأمر، في رسم هذه الصورة المشوّهة والاختلال القائم بين ما يمكن تسميتهما الظاهرتين السياسية والدينية، هذا الاختلال الذي ظلّ أحد أهم الملامح والسمات التي تتعلق بهذه المنظومة منذ انقلاب 3 يوليو في العام 2013.
ومن نافلة القول، في هذا المقام، أن نؤكّد أن كتابا ثريا مثل هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي ينشغل بعملية النهوض ورسم خرائطها لمؤلفه المرموق، محمد حلمي عبد الوهاب، هو ما أثار تلك النقطة التي تتعلق بإقامة عناصر معادلة صحيحة للعلاقة بين الظاهرتين، الدينية والسياسية، ومسؤولية كل منهما عن صور مختلفة من النهوض العاثر، ومن القصور الذي طاول المشروعات النهضوية والإصلاحية، وهذا أمرٌ، مع تلك الإشارة الأولية، لا يزال في حاجة إلى تشريح وترشيح لتلك العلاقة بين الظاهرتين، كما علمنا ذلك أستاذنا، حامد ربيع، في مقدّمة تحقيقه لكتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع"، وهو ما سيكون له مكان في تلك المقالات عن المشاريع الإصلاحية. ولكن في مستوى آخر للتحليل مغاير لمستوى آخر يتعلق بوصف تلك الخرائط التي ترتبط بالاتجاهات العامة للمشاريع النهضوية والإصلاحية.