أفريقيا وجائحة الانقلابات العسكرية
(1)
جاء انقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان في السودان، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حلقة واحدة في مسلسل الانقلابات العسكرية التي انتشرت بصورة وبائية في عدد من بلدان أفريقيا. في أغسطس/ آب 2020 وقع انقلاب في مالي، ما زالت تضطرب أحواله. في العام نفسه، وقع انقلاب في كوناكري عاصمة غينيا. وفي تشاد يُقتل رئيسها إدريس دبي فتضطرب أحوالها. وأخيراً، ينقضّ العسكريون في 24 يناير/ كانون الثاني الحالي على رئيس بوركينا فاسو، ويستولون على السلطة فيها، في أحدث انقلاب عسكري في القارة الأفريقية. لقد نالت معظم هذه البلدان استقلالها في ستينيات القرن العشرين، حين كانت حقبة الحرب الباردة في أسخن أيامها.
لكأنّنا نقرأ حال القارّة الأفريقية مع المعري، في صدر بيته الشعري الشهير: تثاءب عمروٌ إذْ تثاءبَ خالـدُ... أم تلك جائحة سياسية أقلقت قارّة أفريقيا بانقلابات عسكرية، بمثل ما فعلت جائحة كورونا بأحوال العالم، وبدلتْ أنماط حيوات شعوبه إلى حال يصعب الارتداد عنها؟
(2)
لو كان انقلاب البرهان في السودان وقع في بلادٍ لم تعاصر أنظمة ديمقراطية وأخرى شمولية ديكتاتورية من قبل، لجاز لشعب السودان قبول تجربة لم تجرّب من قبل، غير أنّ أجيالاً من السودانيين شهدتْ سنواتٍ من الانقلابات العسكرية منذ تاريخٍ يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ثم منهم أجيال شهدتْ أيضاً تجارب للحكم الديمقراطي سنوات أخرى. تُرى، إلى أيّ وجهةٍ سيقود انقلاب جنرالات هذا البلد الذي نال استقلاله عام 1955، وما زال يتقلب في اضطرابات أحواله السياسية، فهل كتب له ليبقى على حاله يرزح في عدم استقرارٍ أبدي؟
(3)
بعدما أنهى المجتمع الدولي شوطاً بعيداً، وتجاوز المواجهات الساخنة خلال حقبة الحرب الباردة، واستفتح عهداً مضيئاً، عزّزته الإرادة الدولية لبناء عالم تتوطّد فيه موجبات التعاون الدّولي، وبمعطياتٍ أفضتْ، بوسائل تواصل مستجدّة، إلى تحويله إلى محض قريةٍ بالغة الصغر والتماسك، عالمٍ توافق ساكنوهُ على قـيَمٍ ومواثيق واتفاقيات جعلت منه مكاناً كونياً ينعم باستقرارٍ ونماءٍ وأمن.
نكوص عن كلّ القيم والمواثيق والاتفاقيات، بما يقترب من الارتداد إلى حالٍ من الفوضى والانهيار
لكن، حين نُجيل البصر حولنا، وليس في القارّة الأفريقية وحدها، فإنّنا نرى أحوالاً تقترب من النكوص عن كلّ تلك القيم والمواثيق والاتفاقيات، بما يقترب من الارتداد بها إلى حالٍ من الفوضى والانهيار. وحده الرئيس السابق، دونالد ترامب، قاد الإدارة الأميركية السابقة إلى ما دفع بها إلى التخلّي عن معظم مقومات التعاون الدولي وثوابته. صرف جلّ فترته في إهدار التزامات بلاده، وهي من القوى الكبرى، تجاه قضايا الأمن والسّلم، إلّا ما قد يخص بلاده: "أميركا وبس ..!" كان ذلك شعاره الفجّ. أهمل الرجل من قضايا المناخ والبيئة ما أهمل، فانسحب من اتفاقياتها ومن التزاماتها، بل وحجب التمويل عن منظمة الصحة العالمية وهي تواجه الجائحة، ومن منظمة اليونسكو مرّة واحدة، لتزلفها للفلسطينيين. لم يكن له ثمّة اهتمام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صيغ عام 1948، ورسّخ تلك المبادئ التي حفظت للإنسان كرامته، وحرية إرادته. من حسنات ذلك الإعلان الذي أعلى مبادئ الحرية وحقوق الإنسان أنّ بلدان القارّة الأفريقية نالت استقلالها بمعدل سبعة بلدان سنوياً، بين عامي 1958 و1962.
(4)
لكن، لنسأل: هل الرئيس الأميركي السابق وحده الذي يتحمّل الخسارة بعد هذا النكوص، أم أنّها أطراف في بقية أنحاء المعمورة لم تعد تعتمد في أجنداتها ما يحقق التعاون لعمارة الأرض، إن جاز التعبير؟ لو كان بعضُ كبارٍ يتسنّمون قيادة هذا العالم يتصرّفون بما يوصف بعدم المسؤولية، فكيف بمن تولّى قيادة بعض بلدان العالم الثالث، وفي القارّة الأفريقية تحديداً، وممّن نرى حولنا، يضربون بحرّيات شعوبهم أعراض حوائط بلدانهم بدمٍ بارد، ويسومونهم عـنتاً وتعذيباً وقتلاً؟ مسلسل انقلابات عسكريي القارّة الأفريقية بقطع الطريق أمام توق شعوبهم للحرية، ويدفن أحلامهم بالعدالة تحت تراب الطغيان، ويقتل أشواقهم للسلام برصاص البنادق. تلك هجمات تُحدّث عن استخفافٍ بائن بمقوّمات التعاون لإعمار مجتمعٍ إنساني ينعم بتنمية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تعزّز كرامتهم الإنسانية في أوطانهم. يمتدّ ذلك الاستخفاف المستهجن إلى جنوحٍ غير خافٍ للتقليل من دور المنظمات الدولية والإقليمية، فلا تجد من يُنصت لأصواتها، لا الأمم المتحدة يُسمع صوتها بجدّية، أو يُستجاب لنداءاتها باحترام. نسمع طبول الصراعات تقرع بعنف في نواحي أوكرانيا، فيتوجّس الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة، لكن من يتذكّر منهم منظمة الأمم المتحدة في تلك المعمعة؟
انقلابات عسكر القارة الأفريقية على أنظمة حكومات بلدانها تتواتر بمعدلاتٍ قياسية
أما على مستوى القارّة الأفريقية، فالحال ذات الحال، وانقلابات عسكرها على أنظمة حكومات بلدانها، تتواتر بمعدلاتٍ قياسية، فلا يُسمع لمنظماتها الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي، أو اللجنة الاقتصادية لغرب أفريقيا (الإيكواس)، أو منظمة الإيغاد، صوت، إلا همساً مهملاً. علق الاتحاد الأفريقي عضوية السّودان، بعد انقلاب جنرالات ذلك البلد على ثورة شباب بلادهم، وسيعلق عضوية بلدان أخرى في القارّة الأفريقية، مما ذكر أوّل المقال، وذلك بعد انقلاب جنرالاتها على حكومات بلدانهم. أما جامعة الدول العربية، وبعض بلدان القارة الأفريقية أعضاء فيها، فلا يقع عليها استخفاف فحسب، بل هو ازدراء صريح.
(5)
جائحة كورونا، وإن كانت مثلاً بعيداً، فتحت أعين شعوب العالم وحكوماته على أهمية الالتزام بموجبات التعاون الدولي، وبما يعزّز من مبادئه وقدراته وإمكاناته للتصدّى لمخاطر تلك الجائحة، وسواها من الجوائح. إنْ جمعت الكوارث المصابين، فليكن ذلك أدعى حرصاً للشعوب في أنحاء القارة الأفريقية، بل وفي أنحاء العالم كله، أن تجتمع للتصدّي لمانعي حرّياتها ومزوّري عدالتها، وقاتلي شبابها، وسارقي أقواتها، وبائعي مواردها، فتعيد للضمير العالمي مصداقيته وعقلانيته.
ذلك أكثر من صحيح، لكن يظلّ أمر كرامة الشعوب مُعلقاً بإرادة أجيالها المتطلعة لها، الماضية بأشواقها لبناء أوطانها بأيدي أبنائها، وأيضاً بعونٍ من الأقربين شرط خلو ضمائرهم من الغرض ونوازع الأنانية، وعون من الأبعدين وبتعاطفهم المعنوي، شرط خلوّه من الغرض وإضمار أجندات خفية.