أعداء الثورات في خدمة الأعداء
بينما تشتعل عواصم عربية بالغضب ضد همجية الاحتلال والتواطؤ الواضح من حكام وسلاطين على دماء الشعب الفلسطيني الذي يخوض معركته دفاعاً عن المسجد الأقصى، ويقاوم وحده عدواناً على الأمة كلها، يأتي خطيب المسجد النبوي، ويطعن في هذا الغضب النبيل، ويدعو عليه، بدلاً من أن يدعو له.
ليس خطيب الحرم وحده الذي يفعل ذلك، بل تجد الكلام ذاته يصدُر عن السلاطين وعلماء السلاطين في كل مكان في اللحظة ذاتها، إذ يروْن ثورة الجماهير وتظاهراتها السلمية على العجز والصمت والتخاذل والتواطؤ هي الشر المطلق والخطر الداهم على الأوطان، وقبل ذلك هي ليست من الدين، لذا يدعون عليها وعلى المشاركين فيها.
يمكنك بنقرة واحدة على أي محرّك بحث أن تجد عشرات المؤلفات القديمة والحديثة ومئات مقالات الرأي عن العلاقة بين الدين والثورة، وأن الأديان في ذاتها هي ثوراتٌ بما تحتمله الكلمة من جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، بما يجعل من كل نبيٍّ من أنبياء الله مكلّفاً بحمل لواء ثورة على فساد متشعّب الفروع في حياة الجماعة البشرية التي أرسله الله إليها.
لذا بدا لي خطيب الحرم النبوي، وهو يدعو الله، أن يحفظ بلادنا من الثورات والمظاهرات والحروب، وكأن الرجل لا يدرك أنه يخطب في مسجدٍ يحمل اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو بمقياس التغيير في المجتمع الإنساني يعدّ من أعظم الثائرين في التاريخ. كما أن إبراهيم عليه السلام، وهو أبو الأنبياء ما كانت دعوته التي بعثه الله بها سوى ثورة مارسها بالكلمة والحجة وباليد أيضاً حين انطلق لتحطيم الأصنام، وهدم النظام الاجتماعي الجائر الذي كان سائدا في ذلك الوقت، وهو ما جعل حياته كلها سلسلة طويلة من الكفاح والنضال لتحقيق ما أمره الله به.
وتأسيساً على ذلك، يحفل التاريخ الإنساني كذلك بقائمة طويلة من علماء الدين ورجاله الحقيقيين، ممن فهموه في جوهره الصحيح، فكانوا صوتاً ضد حكّام وسلاطين من الطغاة والمستبدّين والموالين للأعداء ضد شعوبهم، وبالتالي، انحازوا لجماهير الشعوب في سعيها ونضالها من أجل نيل حقوقها في الحرية والعدل والمساواة.
من هؤلاء كان العالم الفقيه جمال الدين الأفغاني الذي يصفه المؤرّخ الأديب عبد الرحمن الرافعي بأنه "من الوجهة الروحية والفكرية أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه، وحسبُك أن خطيب الثورة العُرابية عبد الله النديم كان تلميذاً له، ومحمود سامي البارودي رئيس وزارة الثورة كان من أصدقائه ومريديه، والشيخ محمد عبده هو تلميذه الأكبر، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزًا أن يمدها بآرائه الحكيمة، وتجاربه الرشيدة، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار والدسائس الإنكليزية أن يُنفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور".
في ذلك، أيضاً، يمكن استعادة كفاح الدكتور العالم الفقيه علي عزت بيغوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد نيلها الاستقلال، وقبل ذلك أحد ثوارها وقادة مقاومتها العظام، والذي كتب في العلاقة بين الدين والثورة يقول "إن كلاً من الدين والثورة يولدان في مخاض من الألم والمعاناة ويحتضران في الرخاء والرفاهية والترف. حياة الدين والثورة تدوم بدوام النضال والجهاد".
الحاصل أن الجماهير الغاضبة في كل مدينة عربية إنما تصدُر عن إرادة في تحطيم أصنام المجتمع الدولي الظالم الذي يكيل بمكيالين، وينحاز، بكل وقاحته العنصرية واستعلائه الاستعماري الموروث، إلى العدو الذي يحتل وطناً ويبيد سكّانه ويغير في تاريخه وجغرافيته، بتواطؤ من مجموعة حكام يدعو له مشايخ السلطة لهم بطول البقاء والتوفيق في مهمتهم في سحق شعوبهم وخدمة أعدائهم، فأيهما أجدر بالدعاء عليه وتمني سقوطه؟ أعداء الثورات أم خُدّام الأعداء؟