أطفال شوارعنا
الشوارع التي لا تسمح باحتضان مسيرة تحرق العلم الصهيوني، وتهتف من أجل غزة، لا تستطيع أن تستوعب أولادها المخلصين، الذين يغنون للحرية وللعدل وللكرامة.. للثورة.
الشوارع التي لا تتحمل "المسحراتي" لم يعد فيها متسع لأحفاد فؤاد حداد وصلاح جاهين.
لم يعد الشارع للثوار وللشعراء والحالمين الصغار، بعد أن استعمره البوم، وحوّله إلى خرابةٍ، يرتع فيها الشبيحة والبلطجية، فكان طبيعياً أن تكون الزنزانة مستقراً لكل حالمٍ بمستقبلٍ يليق بالبشر، ويتحول أعضاء فريق "أطفال شوارع" من فنانين ومبدعين إلى أرقام في سلسلة الحبس والاعتقال.
ليس مسموحاً لك بأن تغني للوطن وللإنسان، ليس مقبولاً أن تكون إنساناً من الأساس. تلك هي الرسالة. السجن مصير كل من ينشد الحرية، مغنياً صغيراً كان، أم محامياً يبحث عن قبس من العدل في بحر الظلمات. كلكم إلى السجون والقبور، أيها الأوغاد، المطالبون بالكرامة والحرية.
كلكم إلى الجحيم، أيها المارقون المعترضون على بيع سيادة الوطن على أرضه وقراره. سنريكم العذاب حتى تكفوا عن الهتاف، وعن الأذان وقرع الأجراس. سنجعلكم عبرةً لكل من يحتج على أقانيم الخراب. سنعلن الحرب على المجاز وعلى التجريد، وعلى كل أشكال البلاغة، وسنقطع ألسنة الذين يذكرونكم، ونقتلع كل عينٍ تدمع على وطن خبأتموه، في أغنيةٍ أو قصيدة، من التتار.
سنسلخ جلد الوطن، ونبيع لمن يصنع منه لافتاتٍ وملصقاتٍ للدعاية لزعيم الليكود في انتخابات الآباء الروحيين للانقلاب، ونشعل الحرائق في كل مكان، فلا يتذكّركم أحد.
غنيتم للفقراء والمطحونين، حسناً، سنحرق بيوت الفقراء وورشهم الصغيرة، ونعلق الجثث المتفحمة على أبواب زنازينكم. سنبيد الفقراء، لكي لا يكون هناك فقر، ونسحق المظلومين، فلا يبقى على قيد الحياة مظلوم تغنون له. سننسف الحدائق ونقيم سجوناً، ونزرع شوارعكم قيوداً حديدية وماكينات تعذيب.
قبل أن يأخذوه إلى السجن بيومين، كتب محمد عادل، "قائد فريق أطفال شوارع"، معلقاً: "عارف إنّ في ناس كتير عمالة بتلومنا وبتلومني شخصياً، بما أني كنت بزق الفريق ده دايماً، إنه يعمل حاجات أكثر". وتابع: "قعدنا من يومين قبل آخر فيديو وقلنا مش عاوزين لما نكبر نفتكر نفسنا ونفتكرها إنها كانت جبانة". "مصر بقت فعلًا مخيفة.. مش قادر أكتب (الحرية لعز)، وأنا أكتر واحد مش مصدق إنه هيطلع.. إحنا كمان مش هنفضل برة كتير.. الموضوع صعب.. كل اللي أقدر أقوله ف الآخر .. متخافوش برا .. واحنا مش هنخاف جوا".
كان يمكن لهؤلاء الموهوبين الصغار أن يفعلوا مثل علي الحجار، ويمجّدوا المحرقة غنائياً، ويتراقصوا بخلاعة "مصر قريبة"، أو يمشوا على خطى محمد منير، غناء وهذياناً في حفلات بيع الأوهام والأكاذيب القومية.
كان أمامهم أن يكونوا قروداً في "جبلاية الجنرال"، فتفتح أمامهم أبواب الأوبرا والتلفزيون الرسمي، وإذا واجهت أحدهم مشكلة، لجأوا إلى"الزعيم" مستغيثين، مثل الراقصة التي طالبته عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بالتدخل، وإنهاء أزمتها مع طليقها المطرب الشعبي.
كان في وسعهم أن يختاروا الأسهل، ويسقطوا سقوطاً حراً تحت قدمي من باع البلد وسجن الولد، لكن الله ادخرهم لهذه البلاد، كي يكون بمقدورنا أن نرفع رؤوسنا، ونفخر بهذا الأثر الجميل من نسل جمال حمدان وفؤاد حداد وصلاح جاهين وعفيفي مطر وأمل دنقل وعبد الوهاب المسيري وأحمد سيف الإسلام.
***
وضع أمل دنقل قبل الرحيل في "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" رؤيا لأيام تشبه الكابوس الذي نحن فيه، فكتب:
ويكون عام.. فيه تحترق السنابل والضروعْ
تنمو حوافرنا – مع اللعناتِ – من ظمأٍ وجوع
يتزاحف الأطفال في لعق الثرى.
ينمو صديد الصمغ في الأفواه، في هدب العيون..
فلا ترى.
تتساقط الأقراطُ من آذان عذراوات مصر
ويموت ثديُ الأمِّ.. تنهضُ في الكرى
تطهو – على نيرانها – الطفل الرضيع.
**
أطفال شوارعنا وأنوار فجرها الآتي: ننتظركم على ناصية الحلم، ونثق أنكم ستأتون.