أطراف الصراع اليمنية... الهرب إلى الحرب والهدنة
تُدير أطراف الصراع اليمنية خياراتها العسكرية والسياسية وفقاً لحسابات الربح، وقبلها، تأمين هروبها من أزماتها الداخلية، وكذلك التزاماتها مسؤولياتها حيال المواطنين. فمع تباين أهداف الفرقاء في قبول الهدنة أو تعطيلها، بما في ذلك أوراق الضغط التي يمتلكونها لفرض شروطهم، فإن عرقلة تجديد الهدنة تفرض على أطراف الصراع تحدّيات جديدة، من التعاطي مع أزماتها الداخلية وصراعات أجنحتها، إلى مواجهة نتائج خياراتها في هذه المرحلة. وإذا كان المجتمع الدولي يدفع بكل الطرق باتجاه فرض التهدئة في اليمن، فإن الذهاب إلى فصلٍ جديدٍ من التصعيد العسكري الشامل ليس سوى استمرار المقامرة بأرواح اليمنيين.
في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، انقضت الهدنة الإنسانية في اليمن، وذلك بعد رفض جماعة الحوثي تمديدها، مشترطةً فتح مطار صنعاء من دون شروط، بما في ذلك ميناء الحديدة، إلى جانب، وهو الأهم، اقتسام عائدات النفط والغاز، وإنْ تحت مسمّى دفع رواتب موظفي الدولة، فمع المكاسب التي تحصّلت عليها جرّاء ستة أشهر من الهدنة، سواء من عوائد فتح مطار صنعاء جزئياً أو عوائد المشتقّات النفطية من ميناء الحديدة والصليف، فإن انتزاع مكاسب أكثر جذريةً في هذه المرحلة خصوصاً يعد أولوية بالنسبة إلى الجماعة لإدارة الشقّ التفاوضي لتمديد الهدنة، ومن ثم جني مكاسب جديدة، وتأكيد أنها الطرف الأقوى الذي يستطيع فرض شروطه على خصومه، إذ شكّل تنامي الصراع بين قوى المجلس الرئاسي على الثروات في جنوب اليمن مُغرياً للجماعة لتعزيز حقّها في الشراكة بموارد النفط والغاز، أو التلويح باستئناف التصعيد، كذلك إن حاجة السعودية لاستمرار الهدنة على حدودها الجنوبية، وقبلها تجنيب منشآتها النفطية هجماتٍ صاروخيةً دفع الجماعة إلى التشدّد في مطالبها. في المقابل، استرخاؤها في قبول تمديد الهدنة طوال ستة أشهر حكمته الفوائد الاقتصادية المريحة التي حصلت عليها، بالإضافة إلى الوضعين، الإقليمي والدولي، المتأهبين حينها حيال صدمة التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك إدارة أزمتها الداخلية كسلطة. بيد أن إدراك الجماعة ربما باستنفاد مكاسب الهدنة سياسياً وعسكرياً جعلها تمضي في البحث عن حالة تتماشى مع أهدافها، على الأقل في هذه المرحلة، بما في ذلك الاستفادة من متغيّرات الوضع العالمي، إذ أدّى تجميد الجبهات مع البنية القتالية للجماعة وفشلها في السيطرة على أجهزتها إلى اختلال إدارتها المناطق الخاضعة لها، وقبلها عجزها مع انخفاض التحشيد العسكري والمجتمعي، بسبب توقف المعارك، عن سداد رواتب جهازها العسكري المتضخّم، وقطاعات مقاتليها، إضافة إلى تقنين المنظمات الإغاثية لعدد السلال الغذائية التي كانت تعتمد عليها الجماعة في تغطية نفقات مقاتليها، ما جعلها تلقي بمسؤولية رواتبهم، بمن في ذلك موظفو الدولة على عاتق الحكومة، ومن ثم المجتمع الدولي، باشتراط تمويلها من إيرادات النفط والغاز، لا من إيرادات سفن المشتقّات النفطية في ميناء الحديدة حسب اتفاقية استوكهولم، إلى جانب تخفيف الضغط على حليفها الإقليمي، مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في إيران، على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني، واستمرار تعثّر الاتفاق النووي الإيراني، ومن ثم تراهن الجماعة على التفاوض مع السعودية طرفاً رئيساً في الحرب، بما يدفعها إلى الضغط على سلطة وكيلها في اليمن لقبول اشتراطاتها لتمديد الهدنة، والضغط على المجتمع الدولي لترتيب ذلك، مقابل التهديد باستهداف الشركات الأجنبية العاملة في القطاع النفطي، وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، إلى استهداف المنشآت النفطية في السعودية والإمارات، وقبلها استغلال مناسبة المولد النبوي للتحشيد العسكري في مناطقها مجتمعياً وسياسياً واقتصاديا لتدعيم مركزها في المرحلة المقبلة.
هدنة بشروطنا ولصالحنا فقط أو خوض حربٍ ضد الجميع، الاستراتيجية التي تعتمدها جماعة الحوثي في إدارة تفاوضها لتمديد الهدنة
هدنة بشروطنا ولمصلحتنا فقط أو خوض حربٍ ضد الجميع، الاستراتيجية التي تعتمدها جماعة الحوثي في إدارة تفاوضها لتمديد الهدنة، بيد أن المراهنة على ابتزاز المجتمع الدولي، وذلك بالتهديد باستهداف مصادر الطاقة في اليمن ومنطقة الخليج يجعل الجماعة تتّجه إلى مغامرة غير مأمونة العواقب، خصوصاً مع نذر ركود اقتصادي عالمي محتمل، وحاجة العالم لمصادر الطاقة التي تأثرت إمداداتها بالحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثم فإن تهديد دول الطاقة في الخليج لا يمكن أن تقبله القوى الكبرى، وإن اختلفت مقاربتها، على الأقل في الوقت الحالي، وهو ما تمظهر بتأكيد المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيم ليندر كينغ، على حماية أميركا حلفاءها في الخليج، في حال تنفيذ الجماعة تهديداتها، إلى جانب تنديد الاتحاد الأوروبي بتهديد مصادر الطاقة، فضلاً عن إدراج ثلاث قيادات في جماعة الحوثي بلائحة العقوبات، بعد رفضها تمديد الهدنة، وهو ما يعني أن المجتمع الدولي متوافقٌ، إلى حد كبير، على ضرورة خفض الصراع في اليمن. ومن ثم، قد تكون سياسة الابتزاز، في أحيان كثيرة، حماقة، وقبلها عجزاً عن التكيف مع تحولات المصالح الدولية. ومن جهة أخرى، إذا كان تهديد الجماعة باستهداف مصادر الطاقة في الخليج، وذلك لاعتقادها بإسناد حليفها الإقليمي، فإنه قد يكون وهماً مضللاً، فإلى جانب تفضيل الدبلوماسية الإيرانية إدارة علاقاتها بشركائها وخصومها في المنطقة، بما في ذلك السعودية، بما يضمن تحقيق مصالحها، خصوصاً في ظل استمرار حظر بيع نفطها، فإن إيران التي تواجه حراكاً اجتماعياً نشطاً لا يمكن التنبؤ بمآلاته وأزمة اقتصادية ستكتفي كالعادة بالتهديد بالجماعة لدعم مصالحها لا أكثر، وإنْ منحتها مساحة للمناورة السياسية لانتزاع مكاسب تمديد الهدنة. ومن ثم، جماعة الحوثي في هذه المرحلة، أمام خيار تبنّي هجمات على السعودية والإمارات، في حالة عدم تلبية اشتراطاتها في اقتسام عائدات النفط والغاز في اليمن، وهو ما يجعلها عرضةً للهجوم، تراجعها عن تهديداتها والمضي في تمديد الهدنة، وهو ما يجعلها في حالة انكشاف سياسي أمام نخبتها الذين يعوّلون على اقتسام إيرادات النفط لتنمية أرباحهم، البقاء في مرحلة هدنةٍ غير معلنة، والاستمرار بالتلويح باستئناف الحرب، خياراً يضمن لها السيطرة على أجنحتها، وحجز موقع قوة مقابل خصومها، أو خوض حربٍ واسعةٍ في جبهات متعدّدة، التي هي أيضاً ليست في مصلحتها. فمع تصاعد حدّة المعارك في جبهات مأرب والضالع وتعز بعد انقضاء الهدنة، بما في ذلك دعوة الجماعة مقاتليها إلى العودة إلى الجبهات، فإن إدارتها الشقّ الإنساني طوال فترة الهدنة، واكتفاءها بعوائد مطار صنعاء وموانئ الحديدة، لإدارة سلطتها على حساب تجويع المواطنين، يجعلها تخسر معركة عسكرة المجتمع، ومن ثم تحميلها وحدَها مسؤولية تداعيات توسيع دائرة الحرب. كذلك إن النفقات الباذخة التي تعدّت مليارات الريالات في احتفالية المولد النبوي عزّزت قناعة أنصارها من تجييرها لموارد الدولة لتكريس سلطتها، وبالتالي إن تحشيد مجتمع مفقر يفتقر إلى مصادر الدخل إلى جبهات القتال، وإن كان آلية ناجحة بالنسبة إلى الجماعة لإدارة حروبها، فإن مجتمعاً منهكاً من كلفة حرب سبع سنوات طاحنة لا يمكن جرّه إلى الأبد إلى المحرقة.
انتزاع مكاسب أكثر جذريةً في هذه المرحلة خصوصاً يعد أولوية بالنسبة إلى جماعة الحوثي لإدارة الشقّ التفاوضي لتمديد الهدنة
في معادلة الحرب في اليمن، يظل المجلس الرئاسي الطرف الأضعف. لذلك الهرب إلى الهدنة هو المسار الطبيعي لتموضعاته السياسية، باعتباره الخيار الوحيد الذي يضمن بقاءه سلطة توافقية تضم فرقاء متصارعين، كما أن انبثاقه سلطة في سياق فرض الهدنة الأولى بعد نقل الرئيس عبد ربه منصور هادي يجعل من تغيير حالة الهدنة الهشّة إلى حرب شاملة ليس في مصلحته، إذ يفرض عليه تحدّيات جوهرية، كما أن تشكّله بموجب التوافق السعودي - الإماراتي في إدارة اليمن للتهيئة لاستئناف العملية السياسية ومفاوضات الحل النهائي مع جماعة الحوثي يجعل المجلس الرئاسي يحتكم لهذه الغاية، وقبلها خضوع قراره السياسي، بما في ذلك العسكري، للسعودية التي تفضّل الهدنة على أي وضع آخر مقلقٍ بالنسبة إليها، وهو ما تمظهر في استمرار قبول المجلس الرئاسي لتمديد الهدنات السابقة، بما في ذلك الهدنة التي رفضتها الجماعة، وتقديم تنازلاتٍ عديدةٍ مقابل استمرار رفض الجماعة فتح منافذ مدينة تعز، إذ تمثّل العودة إلى حربٍ شاملة بالنسبة إلى المجلس الرئاسي تهديداً لاستمراريته، ومن ثم لم يخُض تجربة الحرب في جبهة عسكرية موحّدة مقابل الجماعة. كذلك إن تشتت القرار العسكري بين قوى المجلس الرئاسي، وفشل سلطة المجلس في دمج المليشيات المسلحة في مظلة عسكرية واحدة، يجعلانه في موقف أضعف في حال استئناف المعارك، إلى جانب انقسام بنية المجلس الرئاسي، السياسية والعسكرية.
تشتت القرار العسكري بين قوى المجلس الرئاسي وفشل سلطة المجلس في دمج المليشيات في مظلة عسكرية واحدة، يجعلانها في موقف أضعف في حال استئناف المعارك
وبعد تصدّع حالة التوافق الظاهري في أحداث مدينة شبوة، والتطورات العسكرية في مدينة أبين، نتجت معادلة جديدة في المناطق الخاضعة له، وهي تركيز القوى المنضوية في المجلس على تكريس سلطتها في مناطقها، وتأمينها أولوية بالنسبة إليها في هذه المرحلة، للدفاع عن نفسها، وعن استحقاقاتها من تهديدات منافسيها. ومن ثمّ، إن استئناف جماعة الحوثي للمعارك، وإن كان خياراً لبعض القوى المنضوية في المجلس للهروب من حالة التضييق عليها وتعزيز مكاسبها، فإنه ليس في صالحه كمظلةٍ سياسيةٍ هشّة، وإن كان قرارها يخضع، في المقام الأول، لإرادة وكيلها السعودي. في المقابل، كانت الهدنة من أجل السعودية أكثر من القوى اليمنية المتناحرة، حيث ضمنت طوال ستة أشهر من الهدنة مكاسب متعدّدة، إذ توقفت الهجمات العابرة للحدود من جماعة الحوثي نهائياً، وأمنت السعودية من استهداف منشآتها النفطية، وتهديد عمقها الداخلي، كذلك ضمنت عدم قيام تهديدات أخرى تأتي من وكلاء إيران في المنطقة، في سياق تحالفهم مع الجماعة، إلى جانب أن تجميد جماعة الحوثي معاركها المتواصلة لإسقاط مدينة مأرب، الغنية بالنفط، في أشهر الهدنة، أدّى إلى توقف الغارات السعوية لإسناد مقاتلي السلطة الشرعية، ومن ثم قلص خسائرها الاقتصادية، بما في ذلك توقّف غاراتها الجوية في المناطق الخاضعة للجماعة، كما أن نتائج القمة الأميركية السعودية في جدة، في ما يتعلق بالشأن اليمني، أدت، في مستوى ما، إلى تقليل الحضور السعودي في حرب اليمن، بما في ذلك مسؤوليتها السياسية والإنسانية حيال جرائمها بحق اليمنيين، مقابل حصر الحرب عسكرياً وسياسياً محلياً بطرفيها الرئيسين، جماعة الحوثي مقابل وكلائها في المجلس الرئاسي، ومن ثم أمنت السعودية في أشهر الهدنة وقف الهجمات العابرة لحدودها، وتجنيب نفسها الاعتماد على حماية حليفها الأميركي. وبالتالي، التفرّغ لترتيب وضعها الداخلي والإقليمي، بما في ذلك إدارة أزمة الطاقة لصالحها، لذلك تدفع السعودية إلى استمرار تمديد الهدنة في اليمن، إذ إن عودة تهديد جماعة الحوثي عمقها، بما في ذلك استهداف منشآتها النفطية، يعرّضها لحالة انكشاف عسكري، خصوصاً مع امتعاض حليفها الأميركي من قرار منظمة "أوبك +" أخيراً الذي أقرّ تخفيض إنتاج النفط، ومطالبة نواب ديمقراطيين بسحب القوات الأميركية من السعودية والإمارات، باعتبار أن قرارها يصبّ في صالح روسيا. ومن ثم، تفرض هذه التطورات على السعودية مواجهة تحدّيات أمنية خطيرة، مع تعقيد مسار تمديد الهدنة في اليمن، كما أن استئناف المعارك في اليمن، يحتّم عليها إسناد وكلائها، ومع فشلها عسكرياً سبع سنوات من حسم الحرب، يجعل من تورّطها في ظل وضع دولي وإقليمي محتقن خسارة مضاعفة.