أسياد لكن عبيد

20 ديسمبر 2020
+ الخط -

أتحدث عن هلاميات، بالطبع، عن فصائل محدّدة منها تسمّى "ثنائية الجنس" وفق التعبير العلمي، و"الخنثى" بحسب التعبير الشعبي، التي كيّفت ميكانيزماتها عبر الزمن، لتصبح قادرة على التزاوج الذاتي، من دون حاجة إلى "شريك" آخر لإتمام العملية الجنسية، فغدت مكتفيةً بذاتها، تؤدّي الدورين في آن معًا، بكلّ توابعهما، لا لنقصٍ في وجود الطرف الآخر، بل، على الأرجح؛ لأنها ترفض وجود "الشريك" أساسًا، لخوفٍ من تقاسم "النفوذ"، والرغبة في الاستئثار بما تعتقده ممتلكاتها الخاصة، بدءًا بالطعام، وليس انتهاء بالمأوى.

غير بعيدٍ من ذلك، كانت ثمّة فصائل "أخرى" دفعها فضولها السلطوي الذي يرفض فكرة "الشريك" أيضًا إلى مراقبة هذه الحيوانات والهلاميات؛ للاستفادة من تجربتها "الخنثوية"، لا بهدف التزاوج الذاتي (وإنْ تتمنّى لو قيّض لها ذلك)، بل لأنها وجدت في هذا التضادّ فرصتها للمواءمة بين دوريْن بات عليها أن تتكيّف معهما، لتتمكّن من الاحتفاظ بكراسي الحكم في بلدانها، وأعني بها فصائل من الحكّام العرب تلعب اليوم دوري "العبد والسيّد" باقتدار عجيب.

الحقّ يقال إن هذه الفصيلة حقّقت الشرط "الخنثوي" السياسي بامتياز، بل تماهت معه وذابت فيه، إلى أن أصبح جزءًا من كينونتها وميكانيزماتها الشخصية، فلم تعد قضية تمثيلٍ فقط، بل فطرة في وسعها توريثها إلى سلالاتها من الحكّام، وإلى فصائل أخرى من شعوبها.

ربما لا يصلح العلم لتفسير مآلات هذه الظاهرة "الخنثوية" في بعض الزعماء، غير أن ما يمكن الجزم به أن فكرة الاستعباد نفسها رافقت المستعمر بعد رحيله، وعمل على تكريسها بأساليب اقتصادية عدة، وأحيانًا سياسية غير مباشرة، استغلّ فيها شهوة الحاكم للسلطة، وموروثات الطاعة العمياء من الشعوب العربية، وصولًا إلى إحكام الطوق على كثيرين من حكام الزمن الراهن، وإلزامهم بالانصياع الكامل للإملاءات، والامتثال للأوامر والنواهي الخارجية حدّ الاستعباد الفعلي، ليتحقق هنا النصف "الخنثوي" الأول في شخصية الحاكم الجديد، بأن يكون عبدًا مكتمل أركان العبودية للإملاءات، بينما يطُلب منه، في المقابل، أن يزاول "سيادته" المطلقة على شعبه التي تصل حد الاستبداد والطغيان. 

وهكذا أصبح زعماء بيننا اليوم، مفوّضين بأداء الدورين معًا، "العبد" و"السيد"، يخلعون رداء "السادة" عن جلودهم، ويصبحون محض عبيد، مهيئين لتلقي أوامر جديدة بلا أدنى نقاش أو اعتراض. وفي المقابل، سرعان ما يستعيدون أقنعة "السادة" وصولجانات الاستبداد؛ ليمارسوا تشوهاتهم الذاتية بجنون أزيد مما لدى المستعمر نفسه، وكأنهم ينتقمون من عبوديتهم بشعوبهم، تعويضًا عمّا يلحق بهم من إذلال هناك.

على طرف ثالث، انتقلت ثنائية "الخنثى السياسية" إلى فصائل من معارضات عربية، لعبت دور الضحية والجلاد بنجاح باهر، فكانت ضحية بارعة النواح والأنين في صفّ المعارضة، لكنها فاقت الجلاّد قمعًا وجلدًا في صفّ الحكم، على غرار الحزب الشيوعي العراقي في خمسينيات القرن الماضي، عندما استخدمه الزعيم عبد الكريم قاسم في قمع المعارضات الأخرى، فكشّر عن أنيابه، وأعمل قتلًا وسحلًا وترويعًا، في مشاهد لن تمحوها أي ذاكرة دمويةٍ من التاريخ المعاصر، وهو الحزب ذاته الذي بارك الاحتلال الأميركي للعراق، وشارك في المجلس الانتقالي الحاكم الذي عيّنه الغازي بريمر. والأمر ذاته ينطبق على معارضاتٍ يساريةٍ وقوميةٍ باركت انقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي على رئيس منتخب ديمقراطيًّا، وشجعت على إبادة المعتصمين في الميادين المصرية. وتكرّرت الظاهرة الخنثوية مع معارضات عربية آزرت استبداد طاغية الشام الطائفي، في سحق شعبه وتهجيره، محققةً هذه الثنائية العجيبة التي لا تتحقق إلا في الأمصار العربية.

بالمناسبة، ما زلت أتحدّث عن الهلاميات بالطبع.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.