أسئلة بشأن شروط تكريس لا منطقية الدولة اللبنانية
يستحيل الجدال في أن اعتداء أي دولة على أراضي أي دولة أخرى هو بمثابة إعلان حرب وفقًا للقوانين والشرائع الدولية كافة، ووفقًا لأعراف الأمم المتحدة، وتماهياً مع القوانين والمعاهدات الدولية. هذه هي القاعدة، وهذه هي نقطة انطلاق أي مقاربة قانونية دولتية عند القيام بتحليل أي مشهد أو حدث دولي. أما المشكلة في لبنان فتتمحور حول من يتحكّم بمفاصل الدولة، ومن يديرها. فمن يدير الدولة ويتحكّم بمفاصلها هم مجموعة مليشيات تترأسها مليشيا أقوى من غيرها، بنوع يعكس تعايش الشرعية مع اللاشرعية، وتعايش السيادة مع كل شروط اختراقها، والأسوأ من ذلك أن اللبنانيين اعتادوا أن يقولبوا العالم بأكمله لكي ينظموه وفق هذه القراءة المشوَّهة والمتناقضة، ووفق المفاهيم اللبنانية الفاقعة في الغرابة وفي الفرادة، كأن يكون تحكم المليشيات في الوسط السياسي اللبناني هو الشرعية، وأن يكون تصرّف هذه المليشيات في الدولة، وفي خارجها، هو مليشيوي لا مسؤولية للدولة عنه في لحظة، لكنها مسؤولة عنه في اللحظة ذاتها، سواء أكان على مستواها الداخلي أو على مستواها الدولي.
لا تفاصيل يمكن أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتسمح بإعادة البناء من أوله، وتسمح، بالتالي، أن يتحوّل القول إلى نقطةٍ تعبّد طريقاً أمام الدولة اللبنانية لكي تمارس كل إمكانات المسؤولية عمّا يجري على أرضها في الجنوب، لا أن ينحصر دورُها في مشاهدة موت مواطنيها واستباحة أمنهم وممتلكاتهم من العدو. إلا أن الإمعان في المشكلة يتأتّى من أن تنصّل الدولة اللبنانية من حماية أرضها، هو ذاته تنصّل مليشيا حزب الله المتمثّل في الدولة والمهيمن عليها، الذي يشرع في الحرب، بمعزلٍ عن تسميتها إن كانت مناوشة أو اشتباكاً أو التزاماً بقواعد الاشتباك. فحزب الله هو المهيمن على الدولة ساعة يشاء، وهو المنكفئ عنها والمتنصّل منها ساعة يشاء. هو من يعلن الحرب التي ليست حرباً، ويشرع فيها، بما يمسّ سيادة الدولة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، على الرغم من أنه هو من يطالب الشرعية اللبنانية بأن تعترض في المحافل الدولية عن الخروقات بحق سيادة هذه الدولة.
دولة تقوِّض كل شروط وحصرية احتكار العنف، وإعلان الحرب، وتتنازل عن الدفاع عن مجالها الحيوي
من غريب الحال أن يتم السكوت عن استهداف المواطنين في دولةٍ، في سياراتهم، أو في منازلهم، من دون اعتبار ذلك حرباً معلنة وآخذة في التوسّع. لا بل من غير المنطقي استكمال السير السياسي على هذا النحو، وإلا فإن أي مواطن هو عرضة للموت لأسبابٍ شتّى غير مشاركٍ في صنع قرارها، ولا أن يعرف لماذا يتموضع في قلب كل هذا الموت. هل يستشهد اللبنانيون في حربٍ ليست حرباً، لا في عرف الدولة ولا في اعتراف المليشيات المسيطرة عليها؟ هل يعقل أن يكون التاريخ على هذا النحو من العبثية بحقّ كل مرادفات العلوم الاجتماعية والسياسية ومفاهيمها ومنهجياتها والقوانين الدولتية من ناحية، ومن ناحية ثانية يتم إطاحة حقوق المواطنين في هذا الكم من الهشاشة وكل مفردات الفراغ على المستوى السياسي داخليًا وخارجيًا. دولة تقوِّض كل شروط وحصرية احتكار العنف، وإعلان الحرب، وتتنازل عن الدفاع عن مجالها الحيوي، وغيرها من قرارات تشكّل المعايير الأولى والبديهية لوجود الدول؟
لا مجال لأن تكون السياسة الداخلية والدولية على هذا النحو، إلا في حالة السخرية والعبث والفراغ المطلق، داخل مجال الدول وخارجها، وحتمًا ليس في أي من اللحظات الحرجة، وإلا هيمن الوحوش عليها كالحال القائمة في عالم اليوم. ومن هذه الناحية، يتوجّب السؤال، كيف يمكن لأي كيان سياسي ممارسة دوريْن، دور الصامت وغير المقرِّر لتغوّل الهيمنة الميليشيوية عليه، ودور المتحدث والشاكي في الأمم المتحدة من اعتداءاتٍ وانتهاكاتٍ تحدث بحقّه، وتطيح الحقّ الأول لمواطنيه، أعني الأمان؟ كيف يقوى هذا الكيان على الزعم، في لحظة ما، وأمام الدول الأخرى كافة، أنه دولة، ويبرّر، في الوقت ذاته، أن مليشيا تهيمن على كل ما يجعله دولة، كونها تتصرّف على نحو يطيح كلّ مقوّمات الدولة؟
لطالما كانت حالة الانتظام السياسي في لبنان مصدر جدل وتفلّت من المفاهيم الكونية، ومن معانيها، أو هكذا كان السعي منذ بداية تشكّل لبنان دولة مستقلة. لطالما كانت الدولة اللبنانية مصدر استغرابٍ في المحافل وفي الكتابات السياسية، وفي سياق أي تحليل علمي وتقني تتوافق عليه وعلى معانيه جميع الدول والمجالس الدولية ومراكز الأبحاث، بحيث تفهم على اللبنانيين عندما يستخدمون مفاهيم الدولة، والشرعية، والنظام، والسيادة، والشرطة، والجيش، والسياستين الخارجية والداخلية... إلخ.
المنطقة أمام منعطف جيوسياسي خطير لا تنفع كل البهلوانيات السياسية معه
ولاحقًا، كيف يمكن مشاركة المعنى مع الآخرين، ومع شرعيّاتهم وأجهزتهم الدبلوماسية، عندما يكون الخطاب المستخدَم لا يحمل المدلول إياه بينهما، وكيف يمكن أن يتفاهم طرفان عندما يستخدمان لغةً ومعاني مغايرة؟ أم ترانا في لبنان، وبعد أن تسلحنا بكل هذا اللايقين واللامنطقية، نستمتع بأن نتصرف ونسلك وكأن الدولة هي من تفعل، في حين أنها لا تراعي أبسط شروط كونها دولة؟ أليس من المستغرب أن تتقدّم الدولة بشكوى من هنا، أو من هناك، من دون أن تكون قادرةً حتى على امتلاك قرارها، وعلى إمساك خيوط التراجع أو التقدّم، في حين أنها، وعلى أفضل تقدير، تلعب دور الوسيط ودور المفاوض بين مليشيا من هنا وشرعية دولية من هناك؟ وهل يمكن الاستمرار بهذا الحال من الانفصام في مثل هذه الأوقات، أم تُرانا بحاجة الى تعميم الفصام على العالم بأكمله لكي يفهم مرادنا؟
في غمرة كل ما يجري، يضيق المجال يومياً أمام تأدية دور الثنائيات المتناقضة والفصامية هذه، وأمام الإمعان في ممارسة التذاكي في الاتجاهات كافة، فالمنطقة أمام منعطف جيوسياسي خطير لا تنفع كل البهلوانيات السياسية معه، خصوصاً أن كثرة اللاعبين وحراجة الأطراف كافة ترجّح كفّة أن يستمرّ الصدام مدة غير قصيرة. فمن يحمي اللبنانيين في مرحلة حرجة كهذه من عمر العالم وما تبقى من دولة؟ من يؤمّن لهم أبسط شروط عيشهم، ويحمي ممتلكاتهم كل ما حاولوا في هذه السنوات التي عايشوها مرحلة الانهيار إعادة بنائه؟