أزمة تونس وخطر الانزلاقات
ما إن تظهر النائب التونسية، عبير موسي، إلا ويسبقها صوتها المدوي. تحاول من خلاله السيطرة على الفضاء، الحقيقي منه داخل البرلمان، أو الافتراضي عبر شاشات التلفزيونات ووسائط التواصل الاجتماعي. لا يهنأ لها بال إلا بقيادة أنصارها في الحزب الدستوري الحر (ترأسه منذ 2016) بالصراخ والعويل ونصب خيم الاعتصامات، ولا هدف لديها إلا محاربة "الإسلاميين". وجديد غزواتها، اقتحام مقرّ اتحاد علماء المسلمين في العاصمة التونسية، حيث طالبت بإغلاقه واتهمته بنشر "الإرهاب". ليس غريباً أن يتبنّى الحزب الدستوري الحر، سليل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي "المنحل" (حزب زين العابدين بن علي) هذا المنطق الانقلابي، فالخصومة الأيديولوجية يقودها منطق الثأر. لا يُنكر أحد على عبير موسي، ومن ساروا في ركابها، خصومتهم مع الإسلاميين، فتلك قصة تتداخل فيها أمور السياسة والقناعات، ولكن أن تتحول الخصومة إلى تأسيس ممنهج لصبّ زيت الخلاف على النار، فذلك مشروع خطير، يُذكي نار الفتنة، ويدفع تونس إلى مجاهيل الفوضى، والتدخلات الأجنبية.
تُعيد تصرّفات موسي ورفاقها إلى الواجهة أيضاً سؤال الجدوى من دولة القانون، حين يُصبح الاحتكام إلى الاشتباك بديلاً من أحكام القضاء والعدالة، فقد رفض القضاء التونسي دعوى استعجالية تقدّمت بها موسي لوقف أنشطة اتحاد علماء المسلمين قبل أشهر، ولم يرضَ الحزب الدستوري الحر بالقرار، فجمع أتباعه إلى الاعتصام أمام مقر الاتحاد. جاء الضغط على السلطات التونسية، هذه المرّة، في صورة اتهامٍ بتواطئها مع الإسلاميين، فتدخل قوات الأمن لفضّ الاشتباكات بين أنصار "الدستوري الحر" و"ائتلاف الكرامة" الذي جاء أنصاره للدفاع عن مقر الاتحاد هو انتصار للإسلاميين في نظر الدستوريين.
تبحث عبير موسي عن الواجهة وتصدر الحدث، ولو بافتعاله غالباً
تبحث عبير موسي عن الواجهة وتصدر الحدث، ولو بافتعاله غالباً. تتقمص فيه دور الضحية، وتتهم غيرها بالاستبداد. في 20 يوليو/ تموز الماضي، حالت وزملاءَها في مجلس النواب دون إلقاء رئيس المجلس راشد الغنوشي كلمة تحت القبة. بدأت كتلة الحزب الدستوري الحر (16 نائباً) باعتصام داخل البرلمان، احتجاجاً على سياسة الغنوشي. بدا المشهد يومها عملاً سياسياً غير مألوف، ولكنه أصبح مقبولاً في الديمقراطية التونسية الحديثة، التي شكلت استثناءً في الخريطة العربية بتبنّيها نهج المشاركة وعدم إلغاء الآخر.
تصبّ تحرّكات زعيمة الحزب الدستوري الحر في نهر الأزمة والاختلالات التي تعيشها تونس. يعيش أهل اليسار والعلمانيون أيضاً حالة استنفار قصوى، فطريق الحداثة والعصرنة لا يضمّ الإسلاميين. ولا يختلف أولئك كثيراً في ذلك مع الأنظمة العربية المستبدة التي ثارت الشعوب ضدها، بل لا يجدون حرجاً في دعم ثورات مضادّة تقمع الإسلاميين، وترميهم في السجون والمعتقلات.
في المقابل، للإسلاميين ميراث آخر من الخيبات، فمنحة الحكم التي أتاحتها لهم الثورة التونسية تحولت إلى محنةٍ في أوقات كثيرة. أزمات سياسية متتالية، حكومات تسقط الواحدة تلو الأخرى. لا يستقيم الأمر لحكومة حتى تجد من يضع لها العصا في العجلة. يركز خصوم حركة النهضة كثيراً على أزماتها الداخلية وانقساماتها، فهي لم توفق، في أحيان كثيرة، في اختياراتها وتحالفاتها.
تزداد الخلافات السياسية عمقاً، ويطل شبح الانزلاق نحو العنف برأسه على البلاد بسبب التصعيد المستمر، بين التيارين الإسلامي والعلماني
غلبة الأزمة على تونس جاءت اقتصادية أيضاً، فالكلفة المعيشية كبيرة، والموارد شحيحة، وأرقام البطالة آخذة بالارتفاع. 783% نسبة ارتفاع تسريح العمال في تونس خلال عام 2020 مقارنة بعام 2019. رقم صادم لا محالة، تقول وزارة الشؤون الاجتماعية إنه أعلى نسبة عطالة تسجلها تونس على الإطلاق. لم يشمل التسريح قطاعات السياحة والخدمات فقط، وإن كانت الأكثر تضرّراً، فأزمة فيروس كورونا أتت على أخضر السياحة ويابسها. بل كشف تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية عن فقدان قطاعات أخرى موظفيها، من بينها قطاعات صناعة النسيج والملابس والصناعات الميكانيكية والإلكترونية والغذائية إلى جانب صناعة مواد البناء والخشب.
تداعت الأحزاب، من كل التيارات، إلى حشد الشارع في صراع مرير على السلطة لم تحسمه صناديق الانتخابات، ولا التفاهمات المرحلية والتنازلات، ولا المفاجآت التي أدّت إلى تحالفات هجينة تحت قبة البرلمان، أدّت، حالياً، إلى أزمة بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، زادها تعقيداً حال الحكومة المعلَّق، وحالة الشد والجذب التي يُمارسها رئيس الجمهورية قيس سعيد.
في الخطاب السياسي الرائج حديث لا ينتهي عن تغليب مصلحة الوطن وانتصارات الشعب التونسي على كل المصالح الضيقة. تتوارى كل هذه الجمل الرنانة، والمحسّنات اللفظية، وراء حملات تشويه الآخر التي تتخذ من أعمدة الصحف واستوديوهات التلفزيونات والإذاعات والمواقع الالكترونية مسرحاً لها. يلجأ الجميع أيضاً إلى استعراض قوة الشارع في مشهديةٍ غريبةٍ عن العمل الديمقراطي، فأروقة البرلمان التي يُفترض أن تشهد النقاش السياسي لم تعد تشفي غليل الخصوم، وأصبح تجييش الشارع رهاناً مستباحاً في الصراع على السلطة. والشارع ملك للجميع، ولكنه يُشكل تعبيراً منفلتاً عن أزمةٍ سياسيةٍ بامتياز تشهدها تونس، يسخر منها أعداء الثورة، وتشكل فرجةً ماتعة لهم، بينما يتأسف لها أصدقاء البلاد، ففسحة الأمل التي منحتها الثورة التونسية للشعوب العربية مكسب لا تريد التفريط فيه، بل تحاول تقليده، والنسج على منواله.
رياح التحدّيات الراهنة، عاتية، ومركب تونس لا يمكنه تجاوز البحر المتلاطم، إلا بتضافر جهود جميع ركابه
تزداد الخلافات السياسية عمقاً، ويطل شبح الانزلاق نحو العنف برأسه على البلاد بسبب التصعيد المستمر، بين التيارين الإسلامي والعلماني. سكب قيس سعيد الماء على أرضية زلقة برفضه عقد حوار وطني إلا بشروطه، وأولها استقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي. في مشهد أقرب إلى السوريالية منه إلى الواقعية، يعمد سعيد إلى شد أعصاب البلاد أكثر مما هي عليه، يتهم أعضاءً في الحكومة بالفساد من دون أن يسمي الأشخاص بذاتهم، ومن دون أن يحدّد القضايا بعينها. كلام مرسل يقول بعضهم، داخ في تفسيره الاتحاد العام للشغل، أكبر منظمة نقابية في تونس، فآثر الأخذ بزمام بالأمور قبل انفلاتها. قدم أمينه العام، نور الدين الطبوبي، مبادرة للتنفيس عن الأزمة العميقة، أعاد إلى الأذهان نجاحه في حلحلة أزمة 2013 التي قادته إلى نيل جائزة نوبل للسلام (مع غيره)، لكن الرئيس سعيّد ردّها إلى الطبوبي، ممهورة بشروط أولها استقالة هشام المشيشي.
تراوح الأزمة مكانها في خضم الصراع المحتدم حالياً حول الصلاحيات، بين الرئاسات الثلاث (الجمهورية، البرلمان والحكومة). ولم تعدم تونس مبادرات الحوار، ولكنها إما مجزأة، أو بشروط لا تقبلها الأطراف كلها. وقد اشتد الوضع وزادت التحدّيات، الاقتصادية والاجتماعية، وأصبح المواطن قاب قوسين أو أدنى من الإجهاد، أو من خط الفقر. وجهت عمادة المحامين التونسيين دعوة إلى المنظمات الفائزة بجائزة نوبل للسلام (اتحاد الشغل، ومنظمة رجال الأعمال والمحامين، وهيئة حقوق الإنسان) للإشراف على حوار وطني جديد، في سبيل حلحلة الخلافات السياسية. وتبنّى اتحاد الشغل مبادرة يقول إنه يريدها بدون شروط مسبقة من جميع الأطراف، بما فيها رئاسة الجمهورية. فهل سيُكتب لهذه المبادرات النجاح المأمول. ظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية لا تترك مجالاً لترف التجاذبات السياسية، وتأجيل الخلافات، وتضييع اللحظة المناسبة لإطلاق حوار وطني جاد، فرياح التحدّيات الراهنة، عاتية، ومركب تونس لا يمكنه تجاوز البحر المتلاطم، إلا بتضافر جهود جميع ركابه.