أزمة الهجرة المعاصرة ونظام الاستغلال العالمي
أسباب عديدة تدفع الناس إلى الهجرة، منها الأسباب الاقتصادية، والبطالة، والقمع والتنكيل، والبحث عن الأمان. وبغض النظر عن الأسباب، هناك هجرة قسرية وأخرى اختيارية. تحدث القسرية عندما تهدّد الحروب والمجازر والمجاعات حياة الناس، لعلّ من أبرزها، في تاريخنا المعاصر، ثلاث هجرات كبرى، الأولى في الصين بعد الاحتلال الياباني منشوريا عام 1931 وما تبعه من تنكيل، وقتل، واغتصاب، ما أدى إلى هجرة عشرين مليون إنسان. الثانية في عام 1947، نتيجة اعتماد الاستعمار البريطاني سياسة "فرّق تسد" الشهيرة، والتي أدت إلى تقسيم القارّة الهندية إلى دولتين، الهند وباكستان، وما تبع ذلك من صراعاتٍ وحشيةٍ أدت إلى هجرة ما بين 12 إلى 16 مليون إنسان من مسلمين وهندوس، واستمرّت آثار هذه السياسة بانقسام باكستان إلى دولتي باكستان وبنغلادش، وإلى المواجهات المسلحة الدورية التي تعيشها منطقة كشمير. الثالثة هي الهجرة الأشهر، وحدثت بعد ذلك بعام في فلسطين، نتيجة جريمة أخرى ارتكبها الاستعمار البريطاني، وعد بلفور، ونتيجة المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في 1948، وأسفرت عن تهجير 70% من الشعب الفلسطيني، أصبحوا اليوم حوالي سبعة ملايين لاجئ مهجّرين بالقوة، بعيداً عن وطنهم ومحرومين من العودة إليه.
ليست الهجرة الاختيارية في الواقع اختيارية تماماً، إذ يكمن سببها الرئيس في انعدام العدالة في النظام الرأسمالي الاقتصادي العالمي، والتفاوت الهائل في درجات التطوّر الاقتصادي ومداخيل الناس. وحسب البنك الدولي، فإن متوسط الدخل القومي للفرد في العالم حوالي أحد عشر ألف دولار سنوياً، ولكن هذا رقم خادع، لأنه لا يظهر الفروق بين الدول، ففي حين يصل دخل الفرد إلى 66 ألف دولار في أميركا الشمالية، و34 ألف دولار في أوروبا، و126 ألف دولار للفرد في لوكسمبورغ، فإنه لا يتجاوز 508 دولارات في أفغانستان، وأقل من 270 دولاراً في بوروندي الأفريقية، ولا يزيد عن 614 دولاراً في تشاد، ويقل عن 600 دولار في جمهورية أفريقيا الوسطى، والكونغو، وموزامبيق، والنيجر، والسودان، و300 دولار في الصومال، ولا يتجاوز 800 دولار للفرد في قطاع غزة، في حين يصل إلى 44 ألف دولار للفرد في إسرائيل.
وفي حين تتمتع دول أميركا الشمالية وأوروبا بدخل مرتفع، فإنها تعاني من أزمةٍ بشريةٍ تكمن في انخفاض نسبة المواليد الجدد، وتعاظم عدد كبار السن غير القادرين على العمل في هرمها السكاني، ما يهدّد، بصورة خطيرة، أنظمة الضمان الاجتماعي لديها، والتي لا يمكن أن تصمد من دون قوة عاملة شابّة تغذي الدخل الاقتصادي. ومقابل ذلك، فإنّ نسبة الشباب القادرين على العمل مرتفعة في البلدان الفقيرة ذات الدخل المنخفض.
البلدان الفقيرة تصرِف من قوت يومها على تعليم الخبراء الاقتصاديين الذين يذهبون وهم جاهزون للعمل في بلدان الشمال الغنية
ينشئ هذا الواقع عمليتين متناقضتين، فالشركات الكبرى في البلدان الرأسمالية المتطوّرة (corporates) تسعى إلى زيادة أرباحها، من خلال استغلال القوة العاملة الرخيصة في البلدان الفقيرة وضعيفة الدخل، وهي مثل حكوماتها تضع كل العقبات الممكنة في وجه هجرة العمال إليها لتحافظ على استغلالها هؤلاء العمال ذوي الأجور الرخيصة في بلدانهم. وهي لا تريد لهم أن يهاجروا، لأن أجورهم سترتفع إذا وصلوا إلى البلدان الغنية، وستصبح الدول التي وصلوا إليها ملزمةً بإدراجهم في أنظمة التأمين الصحي، والاجتماعي، والحماية من إصابات العمل... إلخ. وهذا السبب هو المحرّك الحقيقي للاتجاهات العنصرية، والأحزاب القومية المتطرّفة، واليمينية الفاشية في بلدانٍ كالولايات المتحدة وأوروبا، والرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، والعنصرية الفرنسية مارين لوبان، نموذجان صارخان لهذه الاتجاهات.
ما تمارسه منظومة الاستغلال الرأسمالي هو إطلاق حرية تنقل رأس المال والاستثمارات، وحرية التجارة والتصدير بين بلدان العالم، مع تقييد تنقل العمال إلى البلدان الغنية ومنعه. وبذلك يتحقق الربح مرّة باستغلال القوة العاملة الرخيصة في بلدانها، وأخرى ببيعها المنتجات الاستهلاكية الجاهزة لهذه البلدان، والتي تحتكر إنتاجها كبريات الشركات، مثل مايكروسوفت وآبل، بما في ذلك منتجات الإعلام الاجتماعي كفيسبوك. ولكن ذلك لا يحلّ مشكلة نقص القوى البشرية العاملة، لدى بعض البلدان، وذلك هو سبب العملية المناقضة الثانية، عندما تشجّع البلدان الصناعية هجرة المتعلمين والعقول الشابّة إلى بلدانها.
العولمة الرأسمالية تقسم العالم بكامله إلى بلدان مستَغِلة وبلدان مستَغَلة
وما يحدث فعلياً أن معظم المهاجرين من خرّيجي البلدان الفقيرة والنامية من أطباء، ومهندسين، وعلماء، واختصاصيي كمبيوتر، يتعلمون في بلادهم على حساب قوت أهلهم، أو أموال دولهم، أو يذهبون في بعثاتٍ على حساب اقتصادات بلادهم الضعيفة، ثم يهاجرون إلى البلدان الغنية، فكأن البلدان الفقيرة تصرِف من قوت يومها على تعليم الخبراء الاقتصاديين الذين سيذهبون وهم جاهزون للعمل، حتى وهم يستكملون تعليمهم للحصول على درجاتٍ عليا، لخدمة اقتصاد البلدان الغنية، ولحل أزمة نقص القوى البشرية فيها ومعالجة المخاطر على صناديق الضمان الاجتماعي فيها.
إنّها صورة موحشة للعالم الذي نعيش فيه، ولا يجمّلها تصدّق بعض الدول الغنية بمساعداتٍ محدودةٍ على بلدان استغلتها ونهبت ثرواتها، وما تزال. وهي صورة تجلّت بأوضح ما يكون في أزمة وباء كورونا التي يعيشها العالم، ففي حين يتلقّى الناس في البلدان الغنية لقاح التطعيم الثالث، تعاني معظم الدول الأفريقية ودول عديدة أخرى من انعدام اللقاحات، بعدما عانت من قلة الفحوصات، وستعاني في المستقبل كذلك من شحّ الأدوية والعلاجات.
بعدما كانت الرأسمالية تقسم كل شعب في بلدانها إلى أغنياء مُستغِلين وفقراء مُستغَلين، جاءت العولمة الرأسمالية لتقسم العالم بكامله إلى بلدان مستَغِلة وبلدان مستَغَلة.