أزمة الطبقة الوسطى المتخيلة في مصر

22 سبتمبر 2022

(محمد عبلة)

+ الخط -

يعتقد مصريون كثيرون وهماً أنهم ضمن الطبقة الوسطى، بل والطبقة الأغنى أحيانا، وبالتالي يتخيلون دورا، إما تنويريا أو تثويريا، أو حتى إصلاحيا متخيلا مبنيا على وهم كبير. جزء من هذا الوهم قادم من عالم التمركز حول الذات التي أوجدت مجتمعات المدن المسوّرة وعزّزته مواقع التواصل. وخلال العقدين الماضيين، ترسّخ عالم من التمايز عبر الكومباوند (مجمّع سكني مستقل وله خدمات خاصة وحراسة...)، أو موضة اعتبار امتلاك السيارة أو الشقة مؤهلاً مادياً للالتحاق بالطبقة الوسطى مع بعض رتوش من القراءة والمشاركة في الأنشطة الثقافية والفنية أو إظهار بعض الاستنارة الزائفة في بعض مناحي الحياة.

يقيس بعضهم انتماءه للطبقة الوسطى ببعض الوسائل المادّية البحتة، مثل القدرة على السفر إلى دولة أخرى، وبالذات كالإمارات أو تركيا مثلا، ويعتبر الجمهور الخاص بهؤلاء المتمركزين حول الذات، أنّ هذا معيار جيد للانتماء للطبقة الوسطى.

وعلينا أن نتساءل هنا: أية طبقة وسطى تلك التي ينتمي لها هؤلاء، بينما قد لا يتزايد دخل الفرد فيها عن معدّل سبعة إلى اثني عشر ألف جنيه؟ كما أنّ زوّار الإمارات أو تركيا من مصريين لأغراض السياحة الحقيقية لا يكادون يذكرون ضمن تعداد السياحة في الدولتين، وربما لا يتجاوز مائة ألف شخص سنويا! وكثيرون ممن يذهبون إلى الدولتين يذهبون، إما لأغراض البحث عن العمل أو التجارة أو حتى توفير جزءٍ من أسعار السلع غير الضرورية التي يشترونها بالقسط في مصر للتفاخر فقط، بينما أسعارها في الدولتين أرخص من حيث التكنولوجيا في دبي، بينما الملابس من الماركات العالمية في تركيا أرخص. وأخيرا، أصبح بعضهم يذهب إلى تركيا بوصفها معبرا آمنا نحو أوروبا من رحلات الموت عبر البحر المتوسط، أي أنّ قسماً معتبراً من هذه القلّة المصرية التي تسافر إلى الدولتين يمارس نشاطاً أقرب إلى تجارة الشنطة منها إلى سلوك الطبقة الوسطى المتخيلة التقليدية التي تذهب للسياحة والسفر والترفيه، أو لحضور أنشطة أدبية وفنية ورياضية .. إذن، جزء من مصيبة المجتمع المصري يكمن في الطبقة الوسطى المتخيلة، وهذا يحتاج مزيدا من الدراسة والتوصيف.

جزء من مصيبة المجتمع المصري يكمن في الطبقة الوسطى المتخيلة

تعمل هذه الفئات التي تتخيّل نفسها ضمن الطبقة المتوسطة عادة في وظائف هشّة وغير دائمة وغير معترف بها رسميا، بما فيها كل العاملين في قطاعات التكنولوجيا بشكل حرّ أو "فريلانسرز"، فهؤلاء بداهة يواجهون مشكلاتٍ جمة عند محاولة استخراج تأشيرة أو التصاريح الأمنية والمعاملات البنكية اللازمة للسفر أو الحصول على خدمات الإسكان، وهم ليسوا أصحاب مشروعات أو شركات رسمية، فيحتسبون على الأعمال الحرّة أو هم متعاقدون فيحتسبون ضمن العاملين بأجر. وبالتالي، يعانون الهشاشة في بعض تعريفاتها المتعلقة بالأمن الوظيفي والاجتماعي والصحي، وإن علت أجورهم مقارنةً بغالبية المصريين، بل حتى من يعملون منهم في وظائف يُفترض أنها عليا ورسمية من أطباء ومهندسين وموظفي دولة مضت على تعيينهم عشر سنوات. كثيرون منهم لا يعدّون ضمن الطبقة المتوسطة وفقا للحكومة ذاتها.

المشكلة عندما تكون الحكومة أكثر واقعية من هؤلاء، فطبقا للبنك المركزي وصندوق التمويل العقاري في أثناء طرح مبادرة الإسكان ذات الـ 3% فائدة، فتعريف محدود الدخل الذي يستحق الدخول ضمن المبادرة، كان بحد أقصى ستة آلاف جنيه للأعزب، وثمانية آلاف للمتزوّج ثم تم تعديله في يوليو/ تموز 2022 إلى ثلاثة عشر ألفا للأعزب، ثمانية عشر ألفا للمتزوج، حدّا أقصى. وهذا يعني أنّ من يصل دخله إلى ثلاثة عشر ألف جنيه إجمالي دخل، وليست لديه أسرة أو أقل من ثمانية عشر ألفا، ولديه أسرة، فهو محدود الدخل، ومن يجني دخلا شهريا أكثر من ثمانية عشر ألف جنيه دخلا إجماليا ولديه أسرة، فهو متوسّط الدخل.

معظم من يتخيلون أنفسهم في مصر ضمن الطبقة الوسطى، هم ضمن خطوط الفقر بمعنى أو بآخر

وإذا نظرنا إلى من يحصلون على هذه الأجور في مصر المحروسة، طبقا لآخر بحوث الدخل والإنفاق المتاحة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر/ كانون الأول 2020 طبقا للتقسيم العشري، الذي يقسّم الأسر إلى عشر شرائح، ويحسب متوسط دخل كلّ شريحة، من أدنى 10% في المجتمع إلى أعلى 10% في المجتمع، فالشريحة التاسعة، وهي قبل الأخيرة، ومن ثم هي ثاني أعلى شريحة في المجتمع بمتوسّط دخل شهري حوالي 6300 جنيه مصري (وإذا تمّ احتسابه بالأسعار الثابتة، فسيصبح 5300 جنيه مصري، هذا يعني أن 90% من المجتمع أعلى متوسّط دخل للأسرة عنده هو 6300 جنيه، ما يجعل 90% من المجتمع محدود الدخل، طبقا لتعريف البنك المركزي.

إذا نظرنا أيضا إلى خطوط الفقر العالمية، فإن معظم من يتخيلون أنفسهم في مصر ضمن الطبقة الوسطى ويزعجوننا بالكتابة والتنظير عنها على مواقع التواصل معتقدين أنهم ضمنها، فهم ضمن خطوط الفقر بمعنى أو بآخر، فالشخص الثلاثيني الذي يعيل أسرة من أربعة أشخاص وينفق أقل من 7,6 دولارات في اليوم هو تحت خط الفقر المدقع. وإذا كان إنفاق أسرته أقل من 12,8 دولارا يوميا، فهو تحت خط الفقر العالمي للدول متوسطة الدخل 3,2 دولارات يوميا للفرد، وهذا بالتأكيد لا يتضمن التدهور الذي حدث للأجور الحقيقية للمصريين في السنوات الأخيرة.

السؤال هنا: لماذا يطلّ علينا هؤلاء الشباب، وكثيرون منهم يعانون من الفقر، رغم العمل أو من البطالة أو هم خارج دائرة العمل والتدريب والتعليم، وهي فئة كبيرة في مصر بالمناسبة، ويحدّثوننا عن كونهم ضمن نطاق الطبقة الوسطى التي يجب أن تقود، بينما حتى الدعاية الخاصة بالبنوك والمشروعات القومية الكبرى في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة تقول للناس يوميا إنهم خارج الحسابات، وتعلن عن نفسها بوصفها مشروعات للنصف في المائة الأغنى؟

أعلى متوسّط دخل للأسرة المصرية 6300 جنيه، ما يجعل 90% من المجتمع محدود الدخل، طبقا لتعريف البنك المركزي

الإجابة هنا ربما تكمن في الثقافة الاستهلاكية والطبقية المترسّخة لدى طبقات من المستهلكين والعمال الريعيين الذين يرون المجتمع كسولا والحياة سهلة وبسيطة، وأنّ الاستهلاك للماركات العالمية والبراندات والتنافس على سكنى المدن المسوّرة الأحدث هو دائما معيار التمايز، وأنّ هذا التمايز مطلوبٌ في ذاته، وقد تجد شبابا ممن يقعون تحت خط الفقر يقومون بالادخار لعام كامل، حتى يرتدي ذلك الحذاء أو ترتدي ذلك الفستان أو القميص أو البنطال ذا الماركة المبالغ في سعره في مصر كثيرا، فقط ليلفت الأنظار، وليشعر أنه أصبح ابن الطبقة. وعلى هذا، تعمل الدعاية والشركات العالمية وتحافظ على أسعار مبالغ فيها في فروعها في مصر، رغم تدني الأسعار للسلعة نفسها، بفروعها في بلدان أخرى، تدفع فيها هذه الشركات أجورا أعلى وتكلفة تشغيلية أعلى.

إذن، نحن أمام أقل من 10% من المصريين بالكاد يتجاوزون الوصم الحكومي بمحدودية الدخل وقدرتهم على الادّخار محدودة، وتتدهور مع مرور الوقت، ويتم استغلال وهم أنهم طبقة وسطى، في إيهام الأفقر بذلك. وبالطبع، يرى هؤلاء الفلاحون أو ساكنو المنطقة الشعبية الذين قد يملكون منزلا أو عقارات أو أراضي زراعية أو للبناء، تتجاوز قيمتها قيمة مسكنهم وممتلكاتهم داخل سور "الكومباوند"، كفقراء رعاع متواضعين، بينما الحقيقة المرّة، أنه إذا كان ساكنون خارج سور "الكومباوند" فقراء كفقر دخل، فالجميع في فقر متعدّد الأبعاد، حيث لا تأمين صحيا شاملا ولا خدمات عامة قوية، بل أخيرا يسقط من الدائرة بعض من سكان "الكومباوند" بسبب تدهور الدخول، وأصبحنا نجد جمعياتٍ تطلب صدقاتٍ لحالاتٍ داخل مدن يحتسب سكانها أنفسهم بالكامل أغنياء الطبقة المتوسطة، ويعتبرون دخول بائع متجوّل للمدينة أو سيارة من فئة معينة نقصانا من قيمتهم، وهم يعانون، أخيرا، كغيرهم من المستوى الذي فرضوه على أنفسهم، ومن نبرة التمايز التي رسخوها عقودا، وتشكل عبئا عليهم، وعلى غيرهم، وتجب إعادة النظر فيها ليستقر الجميع.