أزمة الاحتلال في مواجهة حرب متعدّدة الساحات

17 ابريل 2023
+ الخط -

ازداد مشهد العدوّ الصهيوني تعقيداً في الأسبوع الأخير على وقع هجمات المقاومة التي نُفذت من لبنان وسورية وغزة والضفة الغربية والداخل المحتل، والتي جاءت في فترة محدّدة، وحملت رسالة إلى الاحتلال أنّ الاستفراد بالقضية الفلسطينية، وخصوصا القدس والمسجد الأقصى، سيحمل عواقب أمنية وسياسية، والتي أربكت حسابات المؤسّسة الأمنية والعسكرية التي تعدّ أهم نجاح لها خلال العشرين سنة الأخيرة الحدود الآمنة نسبياً، وانتهاء دور الدول العربية في الصراع. 
وجاءت الهجمات المتزامنة في ظل أزمة صهيونية داخلية غير مسبوقة، تعيشها حكومة نتنياهو، سواء في علاقاتها السياسية الخارجية أو التحدّي الأمني مع المقاومة أو التحدّي الداخلي ورفض مشروع الإصلاحات القضائية التي يريدها نتنياهو وحكومته، والتي تضمن له الهروب من السجن. وقد اتّسعت مساحة الخلافات الداخلية في دولة الكيان، وأظهرت مكامن انقسامات عميقة تعتمل داخل المجتمع الصهيوني، فخريطة الانقسامات واسعة وعميقة، وتمتد بين ما هو سياسي إلى ما هو طائفي وعرقي وأيديولوجي، بل وطبقي أيضا، وهو ما يجعل فرص الحل ضعيفة، لأنّ هذا التغيير سيحمل تبعات اجتماعية واقتصادية وسياسية لا تقبل بها النخبة الليبرالية التي تقود المؤسّسات العسكرية والأمنية والاقتصادية والقضائية في الكيان، والتي تتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة. 
وتعدّ الأزمة الحالية مع الإدارة الأميركية الأعمق منذ نشأة الكيان، فهي غير مسبوقة، وتمتد إلى إدارة الرئيس أوباما والخلاف الكبير مع نتنياهو الذي سعى إلى التأثير في المعادلة الحزبية للولايات المتحدة، وأظهر تحدّياً لإدارة أوباما الذي كان جو بايدن نائباً للرئيس فيها. وتتفق الولايات المتحدة مع المعارضة الليبرالية في وقف التعديلات القضائية، وقد أعلنت الإدارة علانية عن دعمها الاحتجاجات ضد إجراءات نتنياهو، لكونها ترى في الخطوة تعدّياً على أدوات التأثير التقليدية لنفوذها في دولة الاحتلال. كما تتخوّف من أن يؤدّي ذلك التغيير في سمات مؤسسات الاحتلال، بما لا يتماشى مع توجهاتها في تقديم الدعم اللامحدود له وحفظ أمنه.

ترفض دولة الاحتلال وضع دستور تجنّباً لوضع حدود سياسية، وبالتالي يجعل تصنيفها دولة احتلال عالمياً أمراً قانونياً متاحاً

يسعى نتنياهو مع الأحزاب المتطرّفة التي تشاركه الائتلاف الحكومي نحو هدف مركزي ورئيسي في تغيير بنية المؤسسات داخل دولة الكيان، وجعلها خاضعة للمؤسسات السيادية وليست فوقها، وخصوصاً المؤسّسة القضائية. وترجع أهمية هذه المؤسسة داخل دولة الكيان لغياب الدستور، والذي يشكل الأساس القانوني في كلّ المجتمعات ويمكن الرجوع له عند الاختلاف. ترفض دولة الاحتلال وضع دستور تجنّباً لوضع حدود سياسية، وبالتالي يجعل تصنيفها دولة احتلال عالمياً أمراً قانونياً متاحاً، كونها ترسل قواتها خارج حدودها، وهي ما زالت ترى في الضفة الغربية جزءا من أرض "إسرائيل" التي تنتظر الوقت لحسمها. ولذلك تعتبر المحكمة العليا وهيئاتها القضائية البديل القانوني داخل دولة الكيان عن الدستور للبتّ في الدعوى السياسية والاجتماعية ضد مؤسّسات التشريع والسياسيين والبتّ في مناسبة القوانين من عدمه، بما يتوافق مع القوانين الأساسية والقوانين الدولية. 
يحاول نتنياهو كسب الوقت من أجل توفّر ظروف وبيئة أفضل له، خصوصا أن موجة الاحتجاجات أصبحت تطاول أهم مكوّنين في دولة الاحتلال، الاقتصاد، والمؤسّسة الأمنية ورفض التجنيد والخدمة العسكرية داخلها، في ظل بيئةٍ إقليمية ودولية وداخلية شديدة الخطورة، تجعل نتنياهو محتاجا لمؤسّسة الجيش، وهو ما جعله يتراجع عن إقالة وزير الدفاع، يؤآف غالانت، الذي تجرأ على الخروج بموقف علني، مطالباً بوقف إجراءات تغيير القضاء مدعوماً بموقف كلّ المؤسّسات الأمنية والعسكرية.
لكنّ اتساع المظاهرات ضد نتنياهو وزيادة مظاهر التمرّد على مؤسّسات الدولة، خصوصاً الجيش، وتراجع شعبية نتنياهو وحزب الليكود إلى الحضيض، والتي ظهرت في استطلاع القناة 13 التي أعطت حزب الليكود 20 مقعداً، وخروج الأموال من داخل دولة الكيان، والتي بلغت حتى اللحظة بين 80 و100 مليار شيكل، ستجعل نتنياهو في موقف حرج، خصوصاً أنّ أفق الخروج من الأزمة غير واضح، فهو من جهة معرّض للحبس، في حال استكمال محاكمته في قضايا الفساد، وفي الوقت نفسه، لا يمكنه الاستمرار في التغييرات القضائية التي تضمن له النجاة من السجن، لأنّ ذلك يعني تصعيد الأزمة في الشارع الذي سيجعل من إسقاط حكومة نتنياهو هدفاً، بدل المطالبة بوقف الإجراءات القضائية فقط.

تعقّد الأزمة الداخلية خيارات نتنياهو في الردّ على فعل المقاومة متعدّد الجبهات

وفي ظل معطيات الأزمة الداخلية للاحتلال، ونظراً إلى تقييمات أمنية داخلية وخارجية مسبقة، عمل الاحتلال منذ أشهر للاستعداد لشهر رمضان واحتمال تصاعد المقاومة فيه، وشرع بتنفيذ استراتيجية واسعة شملت تكثيف عملياته العسكرية ضد المقاومة في الضفة الغربية، وعقد قمتي العقبة وشرم الشيخ بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية وأطراف إقليمية وبرعاية أميركية، بهدف مواجهة المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية، وخصوصا في جنين ونابلس. إلّا أنّ عدوان قوات الاحتلال المستمرّ ضد الفلسطينيين والاقتحامات للمسجد الأقصى والاعتداء على المعتكفين فيه، وبطريقة وحشية واستفزازية، جاء ليعكس اتجاه الأحداث ويخرجها عن السيطرة. ما ولّد ردّة فعل فلسطينية مباشرة وغير مسبوقة في شكلها وتعدّد جبهاتها، أكّدت أنّه لا وجود لخطوطٍ حمر عند الاعتداء على الأقصى، فقد تلقّى الاحتلال ضربة متعدّدة الجبهات خلال ساعات، شملت الحدث الأبرز لهذا العام بإطلاق وابل من الصواريخ من لبنان باتجاه مستوطنات في الشمال، تزامناً مع إطلاق رشقات من قطاع غزة وتنفيذ سلسة من العمليات انطلاقاً من الضفة الغربية ومدن الداخل.
شكّل المشهد ضغطاً كبيراً على الاحتلال وعلى حكومة نتنياهو الذي بدا عالقاً بين الحفاظ على الهدوء والاستقرار الذي خطّط له الاحتلال على مدار أشهر بالتوافق مع الإدارة الأميركية، وبين ضرورة تصميم رد يتعامل مع المستجدّات الميدانية التي فرضتها المقاومة، ما وضع نتنياهو وجملة مؤسّسات الاحتلال أمام تحدّ كبير في ظل أعقد أزمة يمر بها الكيان.
تعقّد الأزمة الداخلية خيارات نتنياهو في الردّ على فعل المقاومة متعدّد الجبهات، فلم يكن نتنياهو الغارق بالأزمات بمقدوره أن يذهب إلى خيارات واسعة في الرد من دون غطاء سياسي داخلي، وهو ما فشل في توفيره عبر لقائه مع زعيم المعارضة، يائير لبيد، كما أن نتنياهو لا يستطيع تحدّي المسار العملي الذي بنته الإدارة الأميركية من أجل الهدوء خلال رمضان لمنع تحوّل أي مواجهة عسكرية إلى حربٍ دينية تؤثر في البيئة السياسية للمنطقة، ولا تستطيع الإدارة الأميركية محاصرة تداعياتها، في ظل عدم قدرة عملياتية للتدخّل في حال التطورات غير المحسوبة.

جملة من الحلول يتم نقاشها داخل الكيان، من أجل وقف مسار الحرب متعدّدة الساحات، تجعل الأيام المقبلة حبلى بالتطورات

يدعو الكتّاب الصهاينة، خصوصاً المحللين العسكريين منهم، إلى ضرورة فك المسار الذي بنته حركة حماس مع حلفائها خلال السنوات الثلاث الأخيرة منذ حرب سيف القدس عبر التصعيد في المسجد الأقصى، خصوصاً خلال شهر رمضان، والذي استعادت معه القضية الفلسطينية جزءا من مركزيّتها في الإقليم والعالم، بالإضافة إلى استعادة دور المقاومة في الضفة الغربية وتدخل المقاومة عبر الحدود في المواجهة وبناء تحالفات سياسية جديدة في المنطقة (محور المقاومة) على أساس حماية المقدسات والقضية الفلسطينية، وهي بيئة سياسية ومعنوية لم تتوفّر في المنطقة بهذا الزخم منذ خروج مصر من المواجهة مع دولة الكيان. 
هناك جملة من الحلول يتم نقاشها داخل الكيان، من أجل وقف مسار الحرب متعدّدة الساحات، تجعل الأيام المقبلة حبلى بالتطورات، من بينها اغتيال قيادات مؤثرة في حركة حماس، حيث يركّز إعلام الاحتلال على الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، المتهم برعاية مسار المواجهة في الضفة والقدس والعلاقة في التفاهمات مع إيران وحزب الله. الخيار الثاني، حذف إحدى الجبهات بمواجهة عسكرية، وهنا تبرز المفاضلة بين جبهتي لبنان وغزّة؛ من حيث تكلفة الحرب، فإن الكفّة تميل إلى التخلّص من جبهة غزة لكلفتها الأقل، لكن من حيث الأفق السياسي ستبقى غزّة معضلةً مزمنة لغياب أي أفق سياسي للحل معها، فهي ليست دولةً يمكن الاتفاق معها على نتائج الحرب، كما أنّ للمقاومة فيها بنية فكرية أيديولوجية متينة، حافظت على جذوة النضال منذ النكبة في 1948. الخيار الثالث، التخلّص من صداع الأقصى المزمن، والذي تحمله آراء صهيونية متطرّفة، تدعو إلى التخلص من هذه الأزمة بشكل دائم وحسم الصراع هناك، والحصول على جزء منه من أجل العبادة ووضع العالم أمام هذه الحقيقة، كونه مكاناً دينياً لليهودي. 
ذلك يؤكّد أنّ العدو لم يعد صاحب اليد الطولى في تنفيذ مخطّطاته وصاحب المبادرة الوحيد، وكل خياراته ومسارات عمله تصطدم باستراتيجية المقاومة الموحّدة، ولها تداعيات أكبر من قدرته على تحمّلها، فالمساس بالمسجد الأقصى سيقود إلى مواجهة واسعة، والاحتلال غير جاهز إقليمياً ودولياً وداخلياً ومهنياً لها. وعلى الرغم من ارتباك العدو وحيرته الناتجة عن التجاذبات الداخلية وفي علاقاته الخارجية، إلا أنه ما زال يملك قدرة عملياتية لتنفيذ أحد التوجّهين، الاغتيال الذي يوفر فرصة للدخول في حرب ومواجهة لكنه يكون حصد صورة النصر. ويستدعي هذا من محور المقاومة تطوير آلياته وتأكيد موقفه في وحدة الجبهات وعمق التنسيق في مواجهة السياسة الإسرائيلية في حال تنفيذها.

محمود مرداوي
محمود مرداوي
أسير فلسطيني محرّر، قيادي في حركة حماس