أرمينيا: صداع في رأس روسيا

14 يناير 2023
+ الخط -

حين قرّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، غزو أوكرانيا، كان معروفاً أن من جملة التأثيرات التي سترافق الحرب ترهيب الحلفاء في الحدائق الخلفية قبل الخصوم خلف الأطلسي، لمنعهم من التفكير بأي حراكٍ خارج إطار النفوذ الروسي، غير أن إطالة أمد الحرب وانتكاسات الجيش الروسي في أوكرانيا بدّلتا مسار الأمور بشكل معكوس.

وإذا كانت كازاخستان التي تدخّل الروس فيها، تحت مظلة "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" لوقف احتجاجات يناير/ كانون الثاني 2022، قد أظهرت تململاً من روسيا في محطّات عدة، متمسّكة بتحالفاتها الغربية، فإن أرمينيا ذهبت إلى أبعد من ذلك. لها مآخذ عدة على موسكو، على الرغم من أنها مشروع "الحليف الأقرب" جنوبي القوقاز للكرملين. يعود السبب إلى الموقف الروسي في حرب إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان. فرض الروس اتفاقاً هشّاً لوقف إطلاق النار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 بعد حربٍ استمرّت شهرين، كان، وفقاً لوجهة نظر يريفان، أقرب إلى باكو. ومع أنهم قدّموا ضمانات بمراقبة الاتفاق، ونشر 1966 جندياً في محيط معبر لاتشين، إلا أن الروس وقفوا عاجزين أمام خطوات أذرية تجاوزت بنود الاتفاق. هنا، بدا ليريفان أن موسكو تريد الحفاظ على استقرار جنوب القوقاز على حسابها، وبشكلٍ لا يزعج أنقرة، حليف باكو الأساسي، وذلك بمعزل عن أحقّية أي طرفٍ في إقليم ناغورنو كاراباخ.

دفع ذلك الأرمن إلى التوجّه غرباً، حيث ثقلهم السياسي والمعنوي، خصوصاً في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. ونجحوا في الحصول على دعم المعسكر الغربي، ما أبعدهم فعلياً عن روسيا. ولم يكن ذلك ليحصل، لو أن الروس حسموا حرب أوكرانيا مثلاً، أو أنهم قادرون على فرض شروطهم فيها واقعياً، لا بالكلام. تعلم أرمينيا، وقبلها كازاخستان، أن الخروج من "الطاعة الروسية" قد يعيد شبح حروب الشيشان وداغستان وجورجيا إلى الواجهة، لكن التباعد مع الروس لا يُمكن تصنيفه "مغامرة سخيفة"، بل أقرب إلى ملاحظة تراجع النفوذ الروسي في العالم وضعف تأثيره.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن لروسيا فرض قرارها بالقوة العسكرية في جنوب القوقاز لعدم توسيع ساحات المعارك خارج أوكرانيا، كما أن السماح لأذربيجان بإبقاء الهيمنة على معبر لاتشين، سيستجرّ تدخلاً غربياً أكبر، لن تنجح محاولات تركيا وإيران، اللاعبين المؤثرين في المنطقة، في كبح جماحه، خصوصاً أن ورقة "الإبادة الأرمنية" حاضرة في أي لحظة للاستخدام، غير أن النقطة البارزة في هذه الحمأة هي أذربيجان، الدولة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الغرب، كما شهدت تصادماتٍ سياسية واقتصادية مع إيران في فترات ماضية، بسبب هذه العلاقة، وإنْ كانت طهران ربطتها حصراً بعلاقات أذربيجان مع إسرائيل.

وللنجاح في جنوب القوقاز، مع أرمينيا وأذربيجان والتفوق على الأتراك والإيرانيين، ولإمساك القبضة في الوسط الآسيوي عبر إخضاع كازاخستان بالقوة أو باللين، بات "يجب" على بوتين حسم حربه في أوكرانيا، كي تنطلق شرارة التأثير التعاقبي على كل الملفات الأخرى. وما التعيينات أخيرا للجيش الروسي في رأس هرم القوات العاملة في أوكرانيا، عبر زجّ كبار قادته في الحرب مباشرة، سوى محاولة يُمكن وصفها بـ"الأخيرة" لبوتين لإنهاء الحرب وفقاً لشروطه.

مع ذلك، لا يمكن التثبّت من إمكانية حسم موسكو هذه الحرب، فكل المؤشّرات تُظهر عجزها عن تحقيق أهدافها الكبرى في كييف. وهو ما سيؤسّس لـ"الاستقلال الثاني" لدول سوفييتية سابقة، فشلت في التخلص مبكّراً، كأقرانٍ لها، من ستار الكرملين الحديدي. وفي الوقت نفسه، وبدلاً من توبيخ وزير التجارة والصناعة، دينيس مانتوروف، والتوجّه إليه بالقول علناً: "لماذا تلعب دور الأحمق؟"، الأربعاء الماضي، كان الأجدى ببوتين فهم حقيقة تشبث الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالبقاء في كييف، وإصراره على القتال: "أريد ذخيرة لا توصيلة"، لإدراك أن أزمنة خوف الدول الصغيرة من روسيا باتت في طور الاندثار.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".