أرقى شعب وأشرف جيش
بمعايير التحضّر الإنساني، يمكن وضع الشعب الفلسطيني في غزّة على رأس قائمة الشعوب الأكثر رقيًا في ممارسة الحياة ومقاومة الفناء. وبمعايير القيم العسكرية، يمكن وضع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة في مقدمة الجيوش الأكثر تجسيدًا لقيم الجندية الشريفة والعسكرية المنظمة.
هذا الشعب الفلسطيني في غزّة الذي فقد ما يقرب من عشرين ألف شهيد خلال ستين يومًا من العدوان الإسرائيلي الأميركي، المدعوم من كلّ أشرار العالم، والمسكوت عنه من جل أشقّاء فلسطين، لم يرضخ للغطرسة الصهيونية التي تطالبه بالرحيل عن أرضه، وتقول له كلّ يوم إنّه لا سبيل للبقاء على قيد الحياة سوى النزوح والهجرة إلى المجهول وإعلان براءته من المقاومة التي تخوض معركة باسلة ضد أحطّ أنواع العسكرية الاستعمارية الاحتلالية المتوحشة.
كان كلّ المطلوب من هذا الشعب أن يلعن مقاومته ويعلن أنها لا تمثله، كي تتوقّف الآلة الحربية المجنونة عن حصد أرواح أطفاله ونسائه، وتفتح له ممرّات للهروب تنفيذًا لمؤامرة كونية تتكشّف معالمها يومًا، وتستهدف تجريد غزّة من مقاومتها وتفريغها من شعبها وإعادتها إلى هيمنة الاحتلال الذي اكتشف أنها تدرّ عسلًا ولبنًا وغازًا طبيعيًا.
من الطفل إلى الشيخ، قال الفلسطينيون في غزّة إن علاقتهم بالمقاومة كعلاقة اللحم بالعظم، وهتف الصغار والكبار إنّ الكل محمد الضيف ويحيى السنوار وأبو عبيدة... قالوها في غزّة تحت نار القصف الصهيوني، وقالوها في مدن الضفة الغربية وبلداتها، وعلى أبواب مقر الوالي محمود عبّاس الذي يناصب المقاومة العداء والكراهية، على نحوٍ لا يقلّ عن مشاعر الغلّ الصهيوني ضدها.
لم يكفر الشعب بمقاومته، ولم يكفر بعروبته وهو يرى حكومات العرب بين متآمر عليه ومتواطئ ضده بالعجز والصمت، وبالبذاءة الإعلامية والفكرية، ومشارك في خنقه بالحصار، مستجيبًا لكلّ ما تمليه عليه حكومة العصابات الصهيونية.
كان الشعب الفلسطيني في غزّة نبيلًا ومتحضّرًا مع أشقّاء يجلدونه بألسنةٍ حداد، تحاسبه على أنّه يصادق من يمدّون له يد العون بالدعم العسكري، سواء بالتسليح أو الاشتباك مع العدو عن بعد، على نحو ما يفعل الحوثيون في اليمن وحزب الله على الجبهة اللبنانية الجنوبية.
لا أفهم كيف يستبيح هؤلاء الناس من جرحى الربيع العربي لأنفسهم رسم حدود حركة المقاومة الفلسطينية واتجاهاتها، في بحثها عن الدعم السياسي والعسكري من أطراف إقليمية ودولية لا يحبّها جمهور الثورات العربية المنكسرة بفعل الاستبداد المدعوم من أنظمة تقدّم السلاح للمقاومة.
وكيف تصل الجرأة والأنانية ببعضهم إلى حدّ أن يكون مطلوبًا من مقاومةٍ تواجه عدوًا هو الأسفل في التاريخ، تقف معه وخلفه وإلى جانبه أقوى دولة، أن تخوض لمجموعات الربيع العربي المهزوم معاركها "الثورية" والطائفية كذلك؟
قلتُ قبل سنوات إنّ هؤلاء الذين يجلدون قيادات المقاومة الفلسطينية على انفتاحها على المحور الإيراني، ودوائره في بيروت ودمشق، يطلّون من نوافذ طائفية، تدّعي الغيرة على الإسلام السني المعتدل من التورّط في علاقات تعاون مع إيران الشيعية، من دون أن يتوقف أحد من هؤلاء عند مشاهد الانحناء والانبطاح التي تبدو عليها زعامات العواصم المعتدلة، المستقيمة، أمام السيد الإسرائيلي، الذي يتولى زعامة السنّة لمواجهة الخطر الإيراني.
المقاومة في غزّة، وفي كلّ مناطق الأرض المحتلة بوصلتها فلسطين، هي الغاية وهي الوسيلة في طريق التحرير، إذا لا تحارب وكالةً عن أيّ من الأنظمة المحيطة بها، كما أنّها ليست معنيةً، ولا يجب أن تكون معنية، بمعارك الشعوب العربية مع الاستبداد المتحالف مع الاحتلال، ولا يحقّ لأحد أن يطلب منها ذلك، فالشاهد أنّ الربيع العربي كان من بين روافعه الثورية ودوافعه الجماهيرية قضية فلسطين، إذ ثارت الشعوب من أجل التخلّص من أنظمة غارقة في علاقات تطبيع وتعاون مع المحتلّ، هي بالضرورة علاقات ضارّة بقضية فلسطين، تلك القضية التي هي محور حياة الإنسان العربي، بوصفها محفّزًا على الإنتاج والتعلّم والنهوض، وبعبارة واحدة امتلاك كلّ أسباب القوّة، لمواجهة عدو يردّد كلّ يوم أنّ حدوده من النيل إلى الفرات.
أخيرًا، ليس على المقاومة الفلسطينية ديون لأحد، بل الكلّ محمّل بديونٍ ضخمة لها، لم يؤدّها أحد حتى الآن.