أذربيجان وتركيا .. حصار ثم تمدّد
تعتبر أذربيجان إحدى محطات الصراع الحالي بين إيران وتركيا، ففي وقتٍ تجد فيه تركيا أن أذربيجان، إضافة إلى كازاخستان، تركمانستان، قيرغيزستان، دول ناطقة بالتركية، ولها روابط ثقافية ووشائج اجتماعية تاريخية مرتبطة بتركيا أكثر من إيران، وتنكشف رويداً رويداً المساعي التركية التمدّدية صوب القوقاز والحدود المتاخمة لإيران، فإن خمسة توترات مركبة تعقد من طبيعة العلاقة بين الجارين الأذري والإيراني، أولها الخوف الإيراني الدائم من الحركات والسياسات العلمانية للحكومة الأذربيجانية، خصوصا في عهد الرئيس إلهام علييف، تقابلها مخاوف باكو من السياسات الدينية لطهران. ثانيها ما تشكله نسبة الأذريين القريبة من 25% من مجموع سكان إيران وإمكانية تحولهم إلى جبهة داخلية معارضة لإيران، إذا فكّرت في محاربة أذربيجان. ثالثها الاعتقاد السائد لدى النُخب الأذربيجانية عن مساعي إيران لتقويض نظام الحكم لديهم، نتيجة لمخاوف طهران من تبعية باكو للغرب، حيث سبق لإيران أن أشهرت رغبتها في تحجيم نفوذ نظام الحكم لدى جارتها، إن لم يكن إطاحته، على لسان رئيس هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة الإيرانية، اللواء حسن فيرو آبادي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، إن "الهام علييف مثل الحكّام العرب الذين يواجهون انتفاضات شعبية، سيواجهون مصيراً قاتماً لعدم إتباعه المبادئ الإسلامية"، ورابعها: على الرغم من اللاتقارب الثقافي والديني كأبرز محرّكات العلاقات، لكن إيران دعمت أرمينيا في خلافها المستمر مع أذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ، وفقاً للمصالح والاعتبارات الاستراتيجية الجغرافية، أملاً بإضعاف أذربيجان أكثر، والضغط على باكو لمنعها من إثارة مشكلات بين السكان الأذريين لديها، ورغبة منها بالتمدّد في المنطقة، لكن طهران عجزت عن الدعم العسكري ليريفان. وخامس الخلافات بين الطرفين، وربما يكون الأعمق والأكثر معقولية لشرح طبيعة الخلاف، وهو ينقسم إلى محورين:
الأول: أن إيران وأذربيجان مختلفتان حول تقاسم موارد الطاقة الضخمة في بحر قزوين، والتي تقدر قيمتها بما يقارب ثلاثة ترليونات دولار، إضافة إلى "مطالب إيران في حقول البرز وألوف التي شغّلتها أذربيجان، وتدافع إيران إنها داخلة ضمن أراضيها". ومع ضعف الاقتصاد الإيراني، واعتماد يريفان على طهران في التجارة والطاقة، لافتقادها الموانئ والسواحل، فإن أيَّ خسارة أو تغيير في الوضع الأرميني سيعنيان تأثيراً عكسياً على طبيعة التجارة والتعامل الاقتصادي بين الطرفين، والذي تستفيد منه طهران أكثر، وتالياً فإن طبيعة الاقتصاد وتركيبته تلعبان دوراً بارزاً في منح أي دولة إمكانية التوسّع من عدمه، أو يكون ذا تأثير سلبي وعكسي مزدوج، كتقليص رغبة طهران بالتمدّد أو عقد صلات تجارية اقتصادية قوية في آسيا الوسطى والقوقاز، وخصوصا أن أذربيجان وكازاخستان من أغنى دول تلك المنطقة، وهما مبتعدتان عن أي حاجة كبيرة لإيران في الجانب الاقتصادي، وتتوجّه تركمانستان صوب علاقات قوية مع روسيا، وتالياً تغيير في خريطة موازين القوى هناك.
تتهم طهران باكو علانية بتحولها إلى ورقة ستستخدمها تل أبيب لتنفيذ هجمات ضد المجال الحيوي الإيراني
والمحور الثاني للخلاف بينهما ربما يعود إلى زيادة نوعية العلاقات الدفاعية بين باكو وتل أبيب، وهو ما اعتبرته إيران تهديداً خطيراً ومصدراً للعداء بينهما، تعمّق ومُنح زخماً أكبر عبر صفقة أسلحة بلغ ثمنها 1.6 مليار دولار بين أذربيجان وإسرائيل في 2012، ما دفع طهران إلى اتهام باكو علانية بتحولها إلى ورقة ستستخدمها تل أبيب لتنفيذ هجمات ضد المجال الحيوي الإيراني ومحاولة إيجاد مثبطات الاستقرار الأمني والاقتصادي لديها.
كان لكل هذه العوامل والتوترات دور وتأثير عميق على مجريات الحرب عام 2020، والتي لم تجد إيران مخرجاً من ضغوط أو مخاوف ردة فعل الأذريين، فيما لو اصطفوا إلى جانب أرمينيا ضد أذربيجان بشكل عسكري مباشر، وخصوصا أن وضع طهران الداخلي يشهد المزيد من التوترات، نتيجة مواقف القوميات والمكوّنات التي انتقلت من الشعور بمظلوميّتها للتعبير عنها علانية بمختلف الطرق، وتأثير وجودها العسكري خارج حدودها على اقتصادياتها المحلية، وتالياً فإن واقعاً جيوسياسياً جديداً فرض على إيران إبّان انتصار باكو، هذا الواقع تجاوز انتصار دولة جارة تمتاز بتوتر العلاقة معها، ضد دولة تستفيد طهران منها اقتصادياً، إلى واقع "تركي" جديد يتطور باطراد، وتتجه لاستعادة دورها الجيوستراتيجي في منطقة القوقاز، وذلك كله على حساب الطموحات والتوجه الإيراني ورغباتها التوسعية في المنطقة، وخصوصا أن روسيا، والتي تتمتّع بوجود أقوى من إيران وتركيا في آسيا الوسطى، تغضّ الطرف عن التمدّد الخفيف حالياً لتركيا ضمن المجال الحيوي في المنطقة، بالتشارك مع أذربيجان، وتلقفت طهران تالياً الإشارة جيداً بشأن تغيير موازين القوى لصالح أنقرة وباكو ضد حليفتها التقليدية يريفان، وخرجت بحساباتٍ صحيحةٍ عن إرهاقها من كل الجوانب إذا وقفت إلى جانب أرمينيا.
إيران وأذربيجان مختلفتان حول تقاسم موارد الطاقة الضخمة في بحر قزوين، والتي تقدر قيمتها بما يقارب ثلاثة ترليونات دولار
وفقاً لذلك، ثمّة صراعٌ وتنافس لثلاث قوى رئيسية في المنطقة (تركيا، روسيا، إيران)، وهي من حيث الشكل والمظهر ربما تتمحور حول قضايا اقتصادية خلافية، كقضية المعابر والأراضي التي سيطرت عليها باكو أخيرا بعد الحرب الأخيرة، وهي طرقٌ تشترك بين باكو وناغورنو كاراباخ وإقليم ناخت شيفان وتركيا، بجانب الحدود الأرمينية - الإيرانية، وهو ما يعني اقتصادياً تحكّم باكو بالمسالك التجارية المعتمدة على تلك الطرق، أي أن تغييرات اقتصادية وما يتبعها من فرض شروط سياسية تتجه نحو التبدل والتغيير في تلك المنطقة، قابل ذلك رفض قاطع لإيران حيال المساس بقواعد اللعبة المتبعة قبل الحرب، لكن من دون أن تتمكن من فعل أي شيءٍ حالياً. وفي العمق، ثمّة صراعاتٍ أكبر من قضية طريق أو معبر فقط، فالعلاقات بين أذربيجان وتركيا كحال أي دولتين تتعمّق علاقاتهما بعد الحرب، حين تفضي إلى علاقات اقتصادية وازنة، فإنها ستنتج واقعاً سياسياً جغرافياً جديداً ينعكس سلباً على طرف محدّد، ففتح المعبر بينهما يعني حصار إيران وأرمينيا معاً، وقطع تمدّد الأولى عبر الثانية. بعبارة أخرى حصار أرمينيا، وقطع طريق إيران إلى أوروبا، ومع الصعوبات التي تجدها إيران في سورية والعراق، خصوصا بعد فشل المقرّبين منها في انتخابات برلمان بغداد، وثبات الموقف الأميركي حيال الوجود الإيراني في سورية، ومساعي روسيا للاستحواذ على كل شيء في ختام المشهد السوري، وإن طال، فإن رفضاً تركياً - روسياً لأي اقتراب إيراني من الصراعات التاريخية القديمة في القوقاز مع روسيا، أو تركيا، والتي تشكّل المجال الحيوي الروسي، مع رغبات توسّعية تركية، رُبما يعزّز من احتمال اندلاع صراعات سياسية يتخلّلها تمدّد عسكري غير مباشر بين مختلف القوى الفاعلة وأدواتها، وهو ما قد ينعكس على الوضع السوري الداخلي، وعلاقات التوازن بين روسيا وتركيا وإيران في العمق السوري، وينعكس أيضاً على التركيبة السياسية والتوازنات بين السوريين أنفسهم، ما بين المقرّبين من إيران أو المحسوبين على تركيا.