أحمد أمين وخرائط الإصلاح في العصر الحديث

03 مارس 2023
+ الخط -

يعدّ كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، الذي طُبع في القاهرة وبيروت، من أبرز إسهامات المفكر أحمد أمين، وقد كان منهجه في رسم الخرائط الفكرية اختيار رواد ومفكرين ومصلحين تركوا اسهاماتٍ فكرية وعملية رائدة، شكلت مساراتٍ للفعل الإصلاحي، وتيارات للفكر النهضوي سار على نهجها وفي رحابها مفكّرون ومصلحون عديدون، وقد تشكلت خريطته من محمد بن عبد الوهاب، ومدحت باشا، وجمال الدين الأفغاني، وأحمد خان، وأمير علي، وخير الدين التونسي، وعلي مبارك، وعبد الله النديم، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده. وفي إطار تمهيده لتناول إسهامات هؤلاء الروّاد، تجول في التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية منذ الانطلاق والتوسّع، مروراً بمراحل الضعف والانحسار، وصولاً إلى محاولات الاستيقاظ التي أصابت وعي الشرق من جديد، مشيراً إلى أهمية الدور الذي قام به زعماء الإصلاح، رغم ما لاقوه من عناء. فمنهم من نادى بالمساواة في العدل بين الرعية، من غير نظرٍ إلى جنسٍ أو دين، واتُّهم بمحاربة المسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة، اتُّهم بالتفرنج والخروج عن التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلس شورى اتُّهم بمحاربة السلطان والحضّ على الثورة والعبث بالنظام، ومن نادى بإصلاح العقيدة والرجوع إلى أصل الدين اتُّهم بالإلحاد، وهكذا. وهم على ذلك صابرون مجاهدون، أحبّوا مبدأهم في الإصلاح أكثر مما أحبّوا الحياة، هؤلاء من حرص المفكر الكبير على رصد تجاربهم وإسهاماتهم، فهم -من وجهة نظره- أخلصوا لأفكارهم، حتى إنهم لم يعبأوا بالعذاب الذي يحيق بهم في سبيل تحقيق فكرتهم، وظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم، حتى تحقّق إصلاحهم ونفذت أفكارهم وتقدم الشرق على أيديهم.

الإصلاح مسألة شاملة ومتكاملة، لا يقوم بها فرد بذاته، إنما هي مشروع أمة وطاقات مفكّرين ومصلحين من اهتمامات ومجالات متنوعة

كان هناك أكثر من معيار لاختيار المؤلف للمصلحين العشرة الذين شكّلوا العلامات الرئيسة لخريطة الإصلاح في العالم الإسلامي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من خلال مجالات الإصلاح الدينية والاجتماعية والعقلية والعملية والسياسية، وغيرها من مجالات الإصلاح التي تشكّل مفاصل النهوض في أي مجتمع، إضافة إلى أن معظمهم قد عاصر غزو الغرب الشرق واستيلاءه عليه ومدى التأثير الذي تركه في أحوال العالم الإسلامي، ومن ثم فقد وفّق الكاتب في أنه جمع بهم العالم الإسلامي من أطرافه المختلفة، وإن كان التركيز الأكبر من نصيب مصر لمركزيتها في مشاريع الإصلاح في ذلك الوقت، وأهمية المشاريع الإصلاحية التي ولدت في أرضها، سواء من أبنائها أو من أبناء الأقطار الإسلامية الذين مرّوا بها. هكذا يتّضح لنا أن الإصلاح مسألة شاملة ومتكاملة، لا يقوم بها فرد بذاته، إنما هي مشروع أمة وطاقات مفكّرين ومصلحين من اهتمامات ومجالات متنوعة، تتكامل فيما بينها لتنتج مشروعات متساندة تتشارك في إقامة أعمدة الإصلاح وتأسيس أركانه وتشييد مبانيه ومعالمه، فقد كان يرى أن جهود هؤلاء المصلحين وأمثالهم تتخطّى حدود دولهم لتنتشر في ربوع الأمة الإسلامية، ترفع من شأنها وتحسّن من أوضاعها.

مثلت اللمحات الأساسية التي رصدها أحمد أمين عند المفكرين العشرة الأسس العامة والأبرز في مشروعاتهم الإصلاحية. رأى أن أهم ما شغل محمد بن عبد الوهاب، مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، باعتبار أن فكرة التوحيد في العقيدة مجرّدة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر إلا الكتاب والسُّنة. أما عن مدحت باشا، فقد ذكر أن همّه تمثل في الإصلاح الاجتماعي، وأن الإصلاح الذي يجب أن يسود في المملكة العثمانية هو الحكم الديمقراطي، على نمط ما رأى في إنكلترا وفرنسا، ومظهر هذا الحكم هو الدستور وإنشاء المجالس النيابية، فقد دعا إلى أن تحكُم الأمة نفسها بنفسها. أما جمال الدين الأفغاني، فقد انشغل بإصلاح العقول والنفوس أولاً، ثم إصلاح الحكومة ثانياً، وربط ذلك بالدين، فقد أراد أن يدعو إلى إصلاح المسلمين دينياً واجتماعياً وسياسياً، وكان المثل الأعلى له حالة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، من حيث العقيدة والصفات الخلقية والنظام السياسي. وتناول أمين جهود أحمد خان التي انشغلت بالتربية، ودعوته أن الإصلاح الحقيقي للهند يقوم على نقل العلوم والفنون والآداب الأوروبية إلى لغة البلاد الأصلية، وأن إصلاح حال المسلمين يكون عقلاً وديناً ولغة وخلقاً واجتماعاً. وأي فكرة عنت له أنشأ لها مؤسّسة تتناسب معها، لذلك بقيت أفكاره وأطروحاته وعاشت بعد مماته. وأورد أمين أن أمير علي التقى مع أحمد خان ورغم أنه كان يرى أن التربية وسيلة صحيحة، إلا أنه شدد على أن يوازيها علاج الشؤون السياسية للمسلمين في الهند. وكان أهم ما يمتاز به الإخلاص للعقيدة؛ عقيدته في دينه، وعقيدته في قومه، وعقيدته في وطنه، وقد بذل جهده في الدعوة إلى الإصلاح الشامل وترقية قومه وإصلاحهم. وكان لكتاباته حول الدين والإسلام وقع كبير في الهند والدول الغربية.

نجح أحمد أمين في رسم الإطار العام للمصلحين الذين وقع عليهم اختياره، ولم يكتفِ بأن استعرض جهودهم وإنجازاتهم الفكرية والعملية

أما عن خير الدين التونسي الذي حرص على إصلاح الداخل في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، وإصلاح في الخارج بربط البلاد بالدولة العثمانية ربطاً وثيقاً يناهض به أطماع فرنسا وإيطاليا، فقد كان مصلحاً اجتماعياً وسياسياً رفيع المستوى. واستعرض أمين جهود علي مبارك في التعليم، وخصوصاً المسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها. وجاء على جهود عبد الله النديم، مؤكداً أنه بذل طاقته في الصحافة، مستخدماً أسلوبه الفريد في مواجهة الأزمات التي يعيشها الناس. وكان خطيب الثورة العُرابية وكاتبها ومشعلها. كذلك بيّن أحمد أمين أن أنصع صفحة في تاريخ حياة عبد الرحمن الكواكبي قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرّف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمّس العلاج لهم. وقد نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والصحف، ثم جمعت في كتابيه الأول "طبائع الاستبداد" في نقد الحكومات الإسلامية، والآخر "أم القرى" في نقد الشعوب الإسلامية. أما مسك ختام هؤلاء العشرة، فهو محمد عبده الذي تلمّس الكاتب من فكره الكثير، مبيّناً أن أهمها إصلاح العقيدة والمؤسسات الإسلامية، كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وكان يرى أن إصلاح المسلمين من طريق دينهم أيسر وأصحّ من إصلاحهم من طريق الإصلاح المعتمد على مجرّد العقل ومقياس المنفعة والتقليد الأوروبي.

نجح المفكر الكبير أحمد أمين في رسم الإطار العام للمصلحين الذين وقع عليهم اختياره، ولم يكتفِ بأن استعرض جهودهم وإنجازاتهم الفكرية والعملية، ولكنه قدّم إطاراً عاماً للوضع في الشرق، وما وصل إليه من تراجع، ووضع الغرب وما حققه من تقدّم. وبيّن أن عملية الاحتكاك بين العالمين، التي جرت في معظمها من خلال الحروب، قد ارتبط بها نقل مظاهر للحياة الاجتماعية والسياسية والمدنية، وكشفت عن وجود مشكلات عديدة يعيشها العالم العربي، أو حملت معها مشكلاتٍ جديدة، كان على هؤلاء المصلحين وغيرهم مواجهتها. ويعتبر ذلك مدخلاً مهماً ليؤكّد أن عمل المصلح من أشقّ الأعمال وأصعبها، فهو يحتاج في ما يعالجه من إصلاح إلى درسٍ دقيق، وتفكير عميق، حتى يحيط بالمشكلة التي يواجهها جملةً وتفصيلاً، ثم يضع خطّة الإصلاح في إتقان وإحكام في ضوْء ما درس، ثم يعد الرأي العام ليستجيب لدعوته ويتحمّس لمطلبه، وهو الأمر الذي عادة ما يواجه فيه مصاعب، لأنه غالباً ما يكون يدعو إلى نوع من التجديد في الأعمّ الأغلب، لا يجد من الناس آذاناً صاغية.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".