أجنحة فوق الماء

23 مارس 2023

نوارس تحلّق فوق البحر في أثناء غروب الشمس في ساموت براكان في تايلاند (Getty)

+ الخط -

ما أضألنا نحن البشر، وما أقلّنا وأوحدنا وأفقرنا في هذا الكون الشاسع المتعدّد الثري. وما أشدّنا رغم كل ذلك غروراً وكبراً فقط لأننا نظن أننا الأكثر قدرة على العيش في كوننا الكبير والأكثر خلوداً فيه!

بعد مضي دقيقتين فقط على بدء عرض الفيلم، أدركتُ أن هذا ما كنت أحتاج أن أراه وأعيشه في هذه الفترة من حياتي بالضبط. التفتّ إلى صديقتي الكاتبة نفلة الحربش التي دعتني دعوة لا تُردّ لزيارة المركز العلمي في الكويت ومشاركتها التجربة الجميلة برؤية فيلم وثائقي، عنوانه "أجنحة فوق الماء" Wings Over Water بتقنية الأبعاد الثلاثية، لأشكرها على الدعوة الثمينة. تعرف صديقتي على ما يبدو غرامي العتيق بمشاهدة هذا النوع من الأفلام التي تسحبني سحبا مما أنا فيه، ثم تقذفني في طبيعتها الأخّاذة حتى لا أكاد أتبيّن الفيلم من الواقع طوال مدة الفيلم المعروض على الشاشة.

انطلقت عروض "أجنحة فوق الماء" أول مرة قبل عام تقريباً في الولايات المتحدة، بإنتاج ضخم استطاع فيه فريقه أن يقدّم تحفة حقيقية تحاول أن تعيد حكاية المخلوقات كلها على الكرة الأرضية بكثير من الدهشة والمزيد من الحقائق العلمية وبصورة بانورامية غاية في الإبداع والجمال.

وعلى الرغم من أنّ الفيلم وثائقي بحت، فإنّ مستوى الكتابة فيه قدّم وقائع المياه واليابسة بصياغة تشدّ المشاهد حتى آخر لحظة فيه بانتظار النهايات المتوقعة لكائناتٍ تعيش على اليابسة أو في الماء وتحلق في الفضاء بقلق من لا يعرف مصائر الأشياء في هذا الزمن الضخم. كلّ ما في الفيلم يُشعرنا بالضخامة والرهافة في آن، وكل شيء يسير وفق ذلك المقدار القرآني الساحر.

يصوّر الفيلم رحلات ساحرة لثلاثة أنواع من الطيور المائية محلقة فوق مساحات اليابسة والمياه مارة بالجبال والصحارى والسهوب والغابات، عبر قارّة أميركا الشمالية كلها تقريبا لتصل أخيرا إلى وجهتها، حفاظا على أنواعها، متحدّية كل أنواع الصعاب الطبيعية التي تواجهها بشجاعة وذكاء فطري، وبلقطاتٍ ملحميةٍ تأسر المشاهد، إذ يتلصّص عليها أخيرا وهي تطعم صغارها بأعشاش معلقة في فراغ الوجود. وعندما يصل أحد هذه الطيور، وهو المغرّد الأصفر الصغير، إلى وجهته بعد رحلة عناء دقيقة يكون المشاهد قد حقّق معه انتصاره الكبير، فيشعر براحة غريبة ومفاجئة تهيمن على وجدانه قبل أن يدرك أن الفيلم قد انتهى حقاً، تاركاً وراءه مزيداً من الأسئلة التي تتعلق بالوجود كله، وبعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

الفيلم بتوقيع المخرج أندرو يانغ، ووضع السيناريو الكاتبان ويندي ماكايغان وأليكس ميلفن، بإتقانٍ كبير لم يغفل إشارة واحدة من إشارات الطبيعة وهي تحتضن مخلوقات الله بكلّ تنويعاتها، لكنّ السحر الحقيقي الذي انساب طوال مشاهد الفيلم، وأضفى عليه ذلك الجمال الروحاني الخفيّ هو الموسيقي التصويرية التي رافقت الأبطال الخارقين بعفويتهم في رحلاتهم الصعبة، من دون أن تفسد لحظات الهدوء حيث يكتمل التأمل بقليل من الموسيقى الداخلية الخفية والمتخيّلة من المشاهد وحده!

استغرق الفيلم 54 دقيقة مضت كأنّها ثوانٍ قليلة، رغم ما غطته من مساحات زمنية ومكانية شاسعة، مرافقة للطيور المحلقة فوق الماء والحيوانات الأخرى تحتها، حيث يتصارع الجميع في سبيل البقاء. ما زلت أشعر بالدهشة تجاه الكيفية التي صوّرت بها تلك المشاهد الطبيعية، فلا بد أنّ جهداً حقيقياً قد بذله المصوّرون شهوراً، وربما سنوات، ليستطيعوا أخيراً تحصيل مثل هذه اللقطات النادرة بالنسبة لنا نحن البشر.

الفيلم قطعة بصرية وموسيقية هائلة الجمال، تشعرك وأنت تشاهدها أنك ضئيل جداً، وأنّ هذا الكون الشاسع الفسيح ليس من حقك وحدك، ولا ينبغي أن تتصرّف فيه وفقاً لتلك الرؤية القاصرة والأنانية، فشركاؤك فيه يستحقون منك ليس الإعجاب وحده بما يفعلون في سبيله حضناً للحياة وحسب، وإنما الاحترام أيضاً لبطولاتهم الخارقة فيه.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.