أثمان الحرب والمفاوضات
يبدو الحراك الدبلوماسي المتجدّد بشأن الأزمة الأوكرانية، وهذه المرّة لوقف الحرب لا لمنعها، وكأنه أقرب إلى عملية إحماء تسبق المفاوضات الجادّة. اللقاء بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأوكراني ديميترو كوليبا في تركيا لم يخرج باتفاق، لو على نقطة واحدة. ومع ذلك، لن يكون الأخير على الأرجح، وإن اتخذ صيغة مختلفة لاحقاً.
فرص الحل السياسي تبقى قائمة، وإن مال الميزان لطرف على حساب الآخر بحسب ما تحمله الفترة المقبلة من تطوّرات خصوصاً في الميدان.
وبعيداً عن لقاء أمس، رسم كل طرفٍ حدوده أو خطوطه الحمراء والأثمان المستعد لدفعها في المفاوضات والحرب. أخبرنا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أنه لم يعد متمسّكاً بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وأن لديه استعداداً لتسوية بشأن وضع الأراضي الانفصالية في شرق أوكرانيا. وطالعنا حزبه (خادم الشعب) بمبادرة جديدة، تتضمن تعويض معاهدة بودابست باتفاقية جديدة تضمنها أميركا وتركيا. ولكن كييف، في الوقت نفسه، كانت واضحة في أنه لا استعداد لديها لقبول كامل شروط موسكو التي تعني عملياً الاستسلام، وذلك مهما كلف الأمر من تضحيات.
أما روسيا، فرمت ببعض أوراقها أيضاً قائلة إنها لا تسعى إلى "إطاحة الحكومة" الأوكرانية، بل وتراجع الحديث عن "النازية" و"النازيين الجدد" الذي لازم بوتين في خطاباته قبيل إعلان الغزو، من دون أن يمنعها ذلك من التمسّك بلازمة نزع سلاح أوكرانيا، أو مواصلة الضغط عسكرياً وقضم ما تستطيع من أراض جديدة داخل أوكرانيا. ولا يُفترض توقّع أن تتوقف عن ذلك مهما تقدّمت المباحثات، على اعتبار أن الوضع الميداني المتقدّم سيعزّز موقعها على طاولة المفاوضات.
وجاء الرفض الأميركي الحاسم للعرض البولندي بتوفير طائراتٍ عسكرية لأوكرانيا ليرسم مساحة اللعب المسموح بها أميركياً، فالولايات المتحدة، التي وفرت لأوكرانيا في أقل من أسبوع 17 ألف سلاح مضاد للدبابات، وتتبادل المعلومات الاستخبارية مع الأجهزة الأوكرانية، وتنقل إليها تفاصيل تحرّكات القوات الروسية، هي نفسها التي ترى أن نقل الطائرات "يمكن أن يعتبر مفاقمة للنزاع". أما "الناتو" فلا يوفر، عبر أمينه العام ينس ستولتنبرغ، فرصة في الأيام الماضية لإخبارنا أنه غير معني بتوسيع الصراع مع روسيا إلى خارج أوكرانيا.
هكذا توافق الجميع، روسيا وأميركا و"الناتو"، على أن تكون أوكرانيا الملعب الوحيد عسكرياً. أما سياسياً واقتصادياً فتبدو المساحة المتاحة أكبر، لأن فرص الاحتكاك المباشر أقل. .. وكل ما نشهده اليوم من تكاليف تُدفع من طرفي الصراع، وتحديداً روسيا، لا يُفترض أن يكون مفاجئاً. عودة سريعة إلى البيانات والتصريحات في الأشهر الأخيرة كفيلةٌ بدحض أوهام أصحاب نظرية المؤامرة الذين يتحدّثون عن فخٍّ نصب لروسيا لاستدراجها إلى خيار الغزو بغية عزلها وحصارها. وضع المسؤولون الروس، وفي مقدمتهم بوتين، منذ العام الماضي، هدفاً واضحاً وصريحاً، إخضاع أوكرانيا سياسياً وعسكرياً. ولم تترك موسكو فرصةً إلا واستغلتها للضغط، خصوصاً عبر الحشد عسكرياً على حدود أوكرانيا، في الوقت الذي كانت تزعم، باستمرار، عدم نيتها غزو أوكرانيا. وفي المقابل، تلقى المسؤولون الروس أيضاً، وفي مقدمتهم بوتين، رسائل واضحة بشأن عواقب أي اجتياح عسكري.
ما نشر في أعقاب الاجتماع المرئي الذي امتد ساعتين بين بوتين والرئيس الأميركي جو بايدن، في ديسمبر/ كانون الثاني 2021، يلخص كل شيء. تحدّث بايدن يومها تفصيلاً عن العواقب الوخيمة والعقوبات المدمرة التي ستلجأ إليها الإدارة الأميركية وحدود تدخلها. أما ما يجري منذ أسبوعين فهو مجرّد تطبيق حرفي لكلامه. وبالتالي، اختار بوتين، بإرادته، شنّه الحرب ودفع الأثمان، حتى إنه استعد لها بتدابير مسبقة، لكن السؤال الأهم يبقى حول مدى قدرة موسكو على الصمود في مواجهة الحرب الاقتصادية.