11 نوفمبر 2024
"أبو تريكة" و"أبو فلاتر" والشرعية
.. بالأمس كنت أتحدث عن الهدايا المجانية التي يقدمها معارضو الانقلاب لعبدالفتاح السيسي، وكأن الأخير قرر أن يردّ الهدية مضاعفة، بقرار يجب أن يدرّس كنموذج للغباء السياسي، بالتحفظ على أموال محمد أبوتريكة، أمير القلوب وصانع السعادة للجماهير المصرية والعربية في السنوات العشر الأخيرة.
لا أعلم يقينا إن كانوا قد تراجعوا عن هذا الابتذال كلية، أم خففوا القرار بعد انتفاضة الجماهير الإلكترونية دفاعا عن نجمها، لكني أعلم تماما أن شرعية محمد أبوتريكة ليست في حاجة إلى أدلة إثبات، فهي ثابتة ومؤكدة كحقائق الجغرافيا والتاريخ، محفورة في رخام الذاكرة الوطنية، ومنقوشة على جدران الوجدان المصري.. هي شرعية ثلاثية الأبعاد. فمن حيث المهارة والموهبة هو الأكفأ والأجدر بقيادة الجماهير نحو حلم الانتصار. ومن حيث الإنجاز، فإن خزينة ميداليات ونياشين وكؤوس وألقاب وبطولات محمد أبوتريكة، تئن من التكدس والزحام. ومن حيث الأخلاق والإنسانيات، يظل مثلاً أعلى ونموذجاً للفتى المصري المنطلق كالرمح من أراضي الفلاحين البسطاء، مدججاً بقيم أنقى من زرع الربيع، وأطهر من سماء استحمّت للتوّ في المطر، ومبادئ خالية من شوائب الكذب والخداع.
أبوتريكة صاحب بطولات حقيقية، لا أكاذيب معلّبة كتلك التي فضحتها وكالة أنباء "رويترز"، أمس، عن حقيقة الإثيوبيين المرحّلين من الأراضي الليبية، والذين استقبلهم جنرال "البلاي ستيشن" في مطار القاهرة، باعتبارهم رهائن حررتهم قوات جنابه، ثم تبيّن أنهم مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين، لفظتهم أمواج المتوسط.
لدى أبوتريكة أكثر من ستين مليوناً من الأنصار، والمحبين الحقيقيين، والمؤيدين الأصلاء، لا 33 مليوناً افتراضيين، صنعتهم سينما المخرج إياه.
ولدى أبوتريكة خطاب يحترم العقول، ويوقّر القلوب المتعبة، خطاب يمكن اعتباره "أنشودة للبساطة"، بتعبير الراحل العظيم يحيى حقي، وليس "أنشودة للركاكة" تتسول عواطف الداخل، وشكائر الخارج، وتنحدر بمستوى الحديث الرئاسي إلى مضحكات مبكيات من نوعية "ربنا ما يحوجك لحد"، و"مصر بتموت".
لم يمارس تريكة القرصنة والسطو على سلطة جماهيرية كانت- عن حق- لسواه، ولم يقد فريقه كمجموعة من النهّابين الخطّافين. لم يصادر أرصدة خصومه، بحجة أنه النجم الأول والأوحد. لم يكن زعيماً لدولة لص في ميدان الرياضة.
باختصار "أبوتريكة" هو الشرعية، بينما "أبو فلاتر" عنوان القرصنة.
وعلى ذكر الشرعية، أطرح سؤالاً على العقلاء، لا المهووسين المهروسين في أوهامهم: عندما تقول إن الثورة مصدر الشرعية، ولكي تستعيد الثانية لا بد من انتصار الأولى، فهل هذا يعني رفضك للشرعية أو احتقارك لها؟
لقد أعلنتها غير مرة وأكررها: لو بقي شخصان في هذا العالم يقاومان انقلاباً غاشماً ويدافعان عن حق رئيس منتخب ظلمه الأعداء والأصدقاء، سأكون أحدهما.
وفي هذا أتفهّم كثيراً مرارة الصامدين وحدهم في الميادين والشوارع منذ عامين، بعد أن أحال كثيرون أنفسهم إلى "التقاعس" كلما دعوتهم إلى توسيع الدائرة، وأتقبل تحفظهم على أصحاب العودة المشروطة. ولا أصدق أن ثائراً حقيقياً يمكن أن يرفض مناقشة انضمام آخرين إليه، مستسلماً لشهوة الانفراد والإقصاء.
إن من بين الأكثر تشنجاً والأعلى هتافاً، من يكون أحياناً الأكثر عداء وخصومة لما يهتف به. وقد علمتنا التظاهرات الجامعية الكثير من الدروس عن هؤلاء الظرفاء، الذين كانوا يعتلون أكتاف المتظاهرين، زعماً بأنهم أقوى هتافاً، بينما هم يحصرون أسماء الطلاب الغاضبين من الأعلى، حيث الرؤية أوضح، لتسليمها لمن يهمه الأمر، أو يهمه الأمن، فيما بعد.
وعلى ذلك أعلم جيداً أن تلك الأصوات التي عادت تهرف بتقسيمات وتصنيفات، وتحاول صناعة حالة استقطابية ممجوجة، على طريقة هذا إسلامي مؤمن، وذلك علماني كافر، هي أصوات تنتمي لمعسكر خصوم الثورة والشرعية معاً، وهي ذاتها الأصوات التي أوردت ثورة يناير التهلكة منذ استفتاء ترقيعات دستور مبارك والسادات في 19 مارس/آذار 2011، ومنذ ذلك اليوم و"فيروس الانقسام" القاتل ينهش جسد الجميع.
إن أصواتاً بدأت تعلن عن نفسها، ممن حملوا العسكر والدولة العميقة على ظهورهم قبل عامين، ويؤدون أدواراً تبدو معارضة الآن، تنشط في الترويج لجمرة خبيثة تقول إن على جميع الأطراف تجاوز لحظة 25 يناير 2011 والبحث عن عناصر تفاعل ثوري جديدة. ومن أسفٍ أن بعضاً ممن يسمون أنفسهم "معسكر الشرعية" يفعلون الشيء نفسه، ويستجيبون، بوعي أو بغير وعي، لهذا النوع من الدعوات، وهنا كل الخطر.