أبو البلاد ينقلب على الأم في ميانمار
ليست مسألة شماتة بالزعيمة، بل تخطئةٌ متجدّدةٌ لها حتى في هذه الظروف التي وقع فيها انقلاب عسكري في موطنها ميانمار، الإثنين الماضي مطلع فبراير/ شباط الجاري، فقد باتت السيدة أونغ سان سوتشي رهينة لدى عسكر بلادها، وتم إلزامها بإقامة إجبارية في منزلها حتى 15 فبراير، مع قطع اتصالاتها بالعالم الخارجي. لم يستهدفها الانقلاب وحدها، بل أيضاً رموز النظام برمته، بمن فيهم رئيس الدولة المنعزلة، يو وين مينت. ولم يحظ ما جرى بمباركة خارجية أو تعامل مع الأمر الواقع. وفي الداخل، لم يحظ الانقلاب برضا شعبي، وعبّر كثيرون عن مواقف رمزية صامتة، معارضة ومنددّة بما جرى، كحال الهيئات الطبية التي قامت باعتصامات وامتناع عن العمل، ما عدا معالجة الحالات الطارئة.
وبينما بنت السيدة أونغ، على مدى عقود، مجدها السياسي والشخصي، على مقاومة العسكر في بلادها، والتمظهر بمظهر زعيمة مدنية تناصر دولة مدنية تكفل حقوق الإنسان، فقد اختارت هذه السيدة الكفّ عن قناعاتها هذه، حين تعلق الأمر بتجريد الجيش والشرطة حملة عسكرية استئصالية ضد مسلمي الروهينغا المقيمين في تلك البلاد جنوب شرق آسيا في عام 2017. بدت السيدة، آنذاك ولاحقاً، في غاية الانسجام مع المؤسسة العسكرية والأمنية والدينية في بلادها، ما دامت المسألة متعلقة باقتلاع نحو مليون لاجئ مسلم قديم في البلد، وتقويض بيوتهم البائسة وإحراق قراهم: 400 قرية، وقد تم محو أسماء 12 قرية منها عن خرائط البلاد. وفيما أبدت مراجع حقوقية وإنسانية استهجانها الشديد من مواقف تلك السيدة التي ناصرت الحملة العنصرية، فإن هذه الحملة لم تدفعها إلى مراجعة موقفها، بل مضت فيه، متدثّرة بالصمت، وبأقل قدر من الحياء، مع محاولاتٍ من طرفها للتشكيك في الوقائع. وهو ما حمل جهاتٍ دوليةٍ عديدةٍ على سحب جوائز وأوسمة وتكريمات منها، إذ بدت، في موقفها الشوفيني، أقرب ما تكون إلى منظومات اليمين الشعبوي المتطرّف، المحبذين للعنف، الكارهين الأغيار، والذين يختصون المسلمين من غير بقية المؤمنين بكراهيةٍ مقيتة ومقيمة. وقد بدت السيدة مرتاحة البال، بعدما تم تشريد مئات آلاف من الروهينغا الذين كانوا ينتظرون الحصول على إقامة دائمة وجنسية ميانمار (بورما سابقاً)، قبل أن يتم اقتلاعهم، وسط ردود فعل ضعيفة. وقد كان أشد الردود ضعفاً التي اتسمت بها مواقف الدول الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي، ما عكس تخاذلاً صريحاً عن نصرة الضعفاء. وبينما تقيم السيدة حالياً تحت الحراسة في بيتها، فإن آلافاً من الروهينغا قد تم تهجيرهم من ميانمار إلى بنغلادش (وهي دولة إسلامية بارزة)، ثم من هذه الدولة إلى جزيرة نائية في خليج البنغال، تُعرف بأنها مسرح للأعاصير.
سعى الجيش، في الانقلاب، إلى ثلم سمعة أونغ، حين وجّه إليها اتهاماً بخرق قوانين الاستيراد والتصدير وحيازة أجهزة اتصال بصورة غير قانونية
لا يؤيد المرء الانقلابات العسكرية، ومنها هذا الانقلاب في البلد "البعيد"، وبخاصة أن ما جرى قد تم تحت زعم استعادة الحياة الديمقراطية، بعد التشكيك بانتخاباتٍ جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومنحت حزب الزعيمة، الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، 80% من المقاعد. وقد بدأت المعارضة، ومنها على الخصوص حزب اتحاد التضامن والتنمية الذي يدعمه الجيش مباشرة، بإطلاق مزاعم عن قوع تزوير في عملية الاقتراع. وكرّرت هذه الاتهامات في بيانٍ وقعه نائب الرئيس الذي تولى بعد الانقلاب مهام الرئيس، لتبرير فرض حالة الطوارئ في البلاد مدة عام، فالعسكر لا يعرفون الانتخابات، ولا يقومون حتى بحراستها، لكنهم في ميانمار يتمتعون بوضع فريد لا مثيل له، فالعسكر هناك، إضافة إلى كونهم قوة مسلحة وجهازاً يحظى بالحصانة وأعلى درجات الرعاية، فإنهم يمثلون قوة برلمانية! فربع مقاعد البرلمان مخصصة للجيش بموجب دستور عام 2008، كما يتحكّم الجيش بمعظم الوزارات المهمة، مثل الداخلية والدفاع وشؤون الحدود وسواها، علاوة على أن للمؤسسة العسكرية استثمارات دولية كبيرة، بما يجعل منها قوة اقتصادية مع الحرية في الحركة بغير رقابةٍ تذكر. وقد عمدت المؤسسة العسكرية إلى تنصيب نائب الرئيس، مينت سوي، رئيساً للبلاد، وصرّح الرجل، بعد تنصيبه وفي معرض تسويغه الانقلاب، أن لجنة الانتخابات فشلت في معالجة قائمة طويلة من المخالفات في انتخابات 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، غير أن أحداً لم يلحظ المخالفات، باستثناء نفر من المعارضة والعسكر، وهو ما حمل معلقين على وصف هذه المخالفات بأنها ترامبية.
كانت أونغ في غاية الانسجام مع المؤسسة العسكرية والأمنية والدينية ما دامت المسألة متعلقة باقتلاع نحو مليون لاجئ مسلم قديم
وثمة انطباعٌ قويٌّ تعزّزه الوقائع الجارية أن الجيش ينظر إلى الزعيمة أونغ على أنها تسعى إلى منازعة المؤسسة العسكرية على ثقة الشعب (54 مليون نسمة)، وتالياً على السلطة الفعلية. وإذ ترى هذه السيدة (75 عاماً) في نفسها أمّاً روحية للبلاد، فإن الجيش يرى من جهته أنه أب البلاد وحاميها وراعيها، ومن الواضح أن الجيش يأخذ هذا الصراع على الحقل الرمزي مأخذاً بالغ الجدّية.. وقد سعى الجيش، في هذا الانقلاب، إلى ثلم سمعة السيدة، حين وجّه إليها اتهاماً بخرق قوانين الاستيراد والتصدير وحيازة أجهزة اتصال بصورة غير قانونية، والغرض من توجيه هذه الاتهامات حرمانها لاحقاً من ممارسة أي دور سياسي، بما في ذلك قيادة حزبها الرابطة الوطنية.
أما الضغط الخارجي على الانقلاب، فهو مؤشر جيد، فما زال هناك حد أدنى لاحترام معايير السياسة، وقد لوحظ أن الصين رفضت ما تسميه التدخل في الشأن الداخلي لهذا البلد، وهو أمر ليس مفاجئاً. ومن المتوقع أن تتخذ الأمر ذاته بخصوص حملة القمع الواسعة للاحتجاجات التي تجرى في روسيا، وبداعي أن هذه أمور داخلية محضة، وقد سبق أن أيّدت الصين، ومعها روسيا، جهود العسكر وبعض الرهبان البوذيين، لاقتلاع مسلمي الروهينغا، وأسهمتا إسهاماً مباشراً وقوياً في الحؤول دون فرض عقوبات على هذا البلد، وهو ما حفز المسؤولين فيه على مواصلة حملة الاستئصال بغير التعرّض لعقوبات، تماماً كما يحدث في الصين تجاه أقلية الإيغور المسلمة، حيث توظف بكين علاقاتها المتشعبة لحرمان هذه الأقلية من أية حقوق ثقافية ودينية مع مطاردة أقارب هذه الأقلية في الخارج، منعاً لنشر أية أنباء عن الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان بما فيها عمليات تعقيم النساء.