أبعاد استراتيجية لقيادة أردوغان

19 يوليو 2023
+ الخط -

انتهت الانتخابات الرئاسية في تركيا في مايو/ أيار الماضي عن فوز رجب طيب أردوغان بنسبة 52.16% مقابل مرشّح المعارضة كمال كليجدار أوغلو بنسبة 47.84%، بعد مواجهة تحدّيات كبيرة، من الداخل تحديدا من المعارضة (تحالف الطاولة السداسية)، وحملات إعلامية مغرضة من أميركا ودول غربية أخرى. ... ما سرّ نجاح هذا الرجل ليكون نموذج القيادة الرشيدة؟ وما الأهداف الاستراتيجية التي يخطط لها؟ وما الثغرات التي يجب أن يتداركها مستقبلا؟

يعزو مراقبون كثيرون سبب نجاح أردوغان في الظفر بولاية ثالثة، رغم تثبيطات عديدة إلى: أولا، قوة الكاريزما التي يتمتع بها أردوغان من أسلوب خطابة مقنع، قوّة الحجّة، الحنكة السياسية، وثباته على الهوية الإسلامية، فضلا عن حمله مشروعا اجتماعيا حضاريا إسلاميا، ناضل من أجله منذ توليه منصب رئيس بلدية إسطنبول سنة 1994 تحت قيادة حزب الرفاه، ليؤسّس بعدها حزب العدالة والتنمية، الذي شكل نقطة تحول سياسي مهم، كلل بحصوله على الأغلبية البرلمانية سنة 2002، ليشغل بعدها منصب رئيس حكومة سنة 2003. وأدّى في الأثناء إنجازات كبرى ارتقت بتركيا إلى مصافّ الدول الرائدة.

ثانيا، المرجعية التاريخية التي يستند إليها الرجل في فكره المستلهم من تاريخ أجداده الأتراك، الذين استلموا مقاليد الخلافة الإسلامية بعد إطاحة الدولة المملوكية في مصر، حينها حوّل الأتراك عاصمة الخلافة من القاهرة إلى القسطنطينية، ليؤسّسوا لخلافة إسلامية، أنجبت خلالها قادة عظماء، من أبرزهم محمد الفاتح فاتح القسطنطينية وسليم الأول وابنه سليمان القانوني وغيرهم.

ثالثا، تمكّن أردوغان في ظرف عشرين عاما من السلطة من تسجيل معدل نمو الناتج المحلي بنسبة 5.4% ما بين 2002 و2021، كما زاد حجم الاقتصاد الكلي من 236 مليار دولار في سنة 2002 إلى 906 مليارات دولار في سنة 2022، حيث ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4278.40 دولارا سنة 2000 إلى 9661.20 دولارا سنة 2021، كما ارتفعت صادرات تركيا من 36 مليار دولار قبل عشر سنوات إلى 170 مليار دولار سنة 2020، وتم بناء منشآت عديدة قاعدية، وإطلاق قمرين صناعيين: توركسات 5B-5A، والشروع في بناء المفاعل الثالث النووي في محطة أق قويو، ورفع الطاقة الإنتاجية في الصناعات الدفاعية إلى 80% سنة 2023، كالمقاتلة من الجيل الخامس"قآن" وطائرة "حرجت" البديلة عن إف 16، مسيرة "بيرقدار قزل ألما"، المسيرة الحربية "بيرقراد TP2 أقنجي"، حاملة طائرات "تي سي جي أناضول" ... إلخ. ما جعل الجيش يحتلّ المرتبة الثالثة بحلف الناتو، وساعد تركيا على الارتقاء من المركز الاقتصادي العالمي 111 إلى المركز 16 (ضمن مجموعة العشرين الأقوياء في العالم G20).

ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4278.40 دولارا سنة 2000 إلى 9661.20 دولارا سنة 2021

رابعا، نقل المجتمع التركي من عهد الانقلابات إلى عهد الجمهورية والتداول على السلطة بآلية الانتخاب الديمقراطي وحكم الشعب نفسه بنفسه، ما أكسبه محبّة واحتراما من شعبه الذي آثر الموت دونه في أثناء محاولة انقلاب صيف 2016، فلأول مرّة يسجل العالم أكبر نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية قدرت بـ89.89% في تركيا، في حين سجلت نسبة المشاركة في الولايات المتحدة %66.8 سنة 2020، وسجلت في فرنسا سنة 2022 نسبة 23.63% وسجلت في ألمانيا سنة 2021 نسبة 6.76%، وهذا يشكّل تفوّقا بارزا لديمقراطية تركيا على ديمقراطيات الدول الغربية العتيدة التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر مع بداية عهد الثورات الأوروبية، كما يمثّل دلالة قاطعة على وعي الناخبين الأتراك ومدى تقديرهم حجم المسؤوليات.

خامسا، دحض نجاح أردوغان بانتهاج النموذج الإسلامي الديمقراطي كل التهم والأباطيل اللصيقة بفوبيا الدين الإسلامي، التي كانت تنعته بالإرهاب والتطرّف، وتقديمه في صورة مشرقة، قوامها أنه دين ألفة ومحبّة وتسامح، هدفه المؤاخاة بين الشعوب، والخير وخدمة الإنسانية جمعاء.

سادسا، تأثر الجالية التركية بمشروعه ودعمها له، ووعيها الراسخ بالتحدّيات الإقليمية، وإيمانها بترشيح تركيا للعب أدوار الريادة، وهذا ما جعلها تصوّت له بقوة خلال الاقتراع الأخير بنسبة 59،59%. فضلا عن تأثّر مختلف الشعوب العربية التوّاقة للحرّيات بإنجازات الرجل ومواقفه البطولية، ما أكسبه ودّا واحتراما منقطعي النظير.

سابعا، امتلاك أردوغان محبّة الشعوب الإسلامية والعربية التي أصبحت ترى فيه أحد صانعي تاريخها المشرق، ورمزا للعزّة والإباء بسبب مناصرته القضايا العادلة، مثل محاولته كسر الحصار المفروض على غزّة، احتضانه حوالي ثلاثة ملايين سوري، معارضته الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي رحمه الله، وهي المواقف التي كادت أن تكلفه خسارة كرسي الرئاسة، لأن مواقفه هذه تثير حفيظة القوى الغربية.

ثمّة ضرورة لتحضير خليفة أردوغان لقيادة حزب العدالة والتنمية خلال المؤتمر العام المقبل في أواخر صائفة سنة 2023، بإعداد كوادر عبقرية لحمل المشعل ومواصلة المسار

يظهر جليا من خلال شخصية أردوغان الاستثنائية أنه صاحب رؤية واستراتيجية بعيدة المدى، ويطمح إلى تجسيد جملة من المرامي: أولا، المحافظة على تصدّر تركيا الريادة الاقتصادية، بسعيه الدؤوب إلى تطوير الاقتصاد، والوفاء بوعوده التي قطعها على نفسه بإعمار المناطق المنكوبة وإيواء المتضرّرين من الزلزال (فبراير/ شباط 2023)، الذين صوّتوا له بقوة في كهرمان مرعش.

ثانيا، كشفه مخطّطات ائتلاف المعارضة المنضوي تحت عباءة الحزب الجمهوري القومي، وإضعاف شعبيّته بتحسين الظروف المعيشية للمجتمع، وتخفيض نسب التضخّم، التصدّي للآفات الاجتماعية، ورفع قيمة الليرة التركية، الزيادة في النمو الاقتصادي.

ثالثا، الاستعداد لكسب رهان الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في مارس/ آذار 2024 بتقديم مرشّحين أكفاء مثل وزير الداخلية السابق سليمان صويلو، لشعبيته، ومن هو في مستواه لاستعادة بلديتي إسطنبول وأنقرة، ولضمان تنفيذ الخطط المبرمجة والمشاريع الاقتصادية الهامة.

رابعا، ضرورة تحضير خليفة أردوغان لقيادة حزب العدالة والتنمية خلال المؤتمر العام المقبل في أواخر صائفة سنة 2023، بإعداد كوادر عبقرية لحمل المشعل ومواصلة المسار. وتعزيز السياسة الأردوغانية، بتأسيس نظام حكم مؤسّساتي مدني راسخ، عصي على النخبة العسكرية، وغير قابل للمراجعة مهما تعاقب الحكّام، والانتقال من مرحلة بناء المنشآت القاعدية إلى بناء قوة تركيا بترسانتها الدفاعية.

خامسا، على اعتبار أن العالم يشهد انشطارا دوليا، تسعى تركيا، بوصفها دولة محورية، كما تنبأ لها المفكر صموئيل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات"، من خلال ترسانتها الدفاعية، وديمغرافيّتها، وموقعها الاستراتيجي بوصفها نقطة عبور لتصدير القمح والطاقة للعالم الغربي، وامتلاكها مضيقي البوسفور والدرنديل اللذيْن يربطان قارّة أوروبا بقارّة آسيا، للتموقع ضمن الدول العظمى إلى جانب الصين وروسيا، ما سيؤهلها للقيام بأدوار محورية، من توطيد التعاون الاقتصادي وفتح الحدود وإقامة الأحلاف العسكرية مع الدول الإسلامية العربية.

يعمل أردوغان على المحافظة على تصدّر تركيا الريادة الاقتصادية، بسعيه الدؤوب إلى تطوير الاقتصاد

 

وعلى الرغم من سموّ الأهداف المسطّرة، ثمّة تحدّيات قد تعيق أردوغان في تحقيق طموح الشعب التركي، والتي يجب التنبيه إليها: أولا، على الرغم من احترافية وسائل الإعلام التركية، التي تساعد الحكومة على أداء مهامّها بشكل حسن، إلا أن الرجل مطالب بالاستفادة، رفقة مستشاريه، من إمكانات وسائل التواصل الاجتماعي (يوتيوب، تيك توك، إنستغرام، والألعاب الإلكترونية ... إلخ)، لمخاطبة الشباب وعقولهم واستمالتهم وكسب ثقتهم.

ثانيا، التنبيه إلى خطورة مشكلة وجود ستة ملايين لاجئ ومهاجر في تركيا بسبب الحروب والأزمات، نجم عنها انعدام الاستقرار الأمني، ما يستوجب المسارعة إلى حل المعضلة جذريا، استئصالا لمشاعر الكراهية والفكر العنصري، إما بالعودة الطوعية وفقا لبنود الاتفاقيات الدولية، أو نقل هذه الفئة إلى مناطق آمنة في الشمال السوري، ضمن توافقات مع الأطراف المعنيّة.

ثالثا، تصفير المشكلات وتجنّب السياسات الدولية المنتجة للعداوات مع دول الجوار، وتركيز كل الجهود في فضّ المشكلات الاقتصادية، ولم الشمل التركي. مع العلم أن كثيرين يفسّرون مواقف الرجل عند تعامله أحيانا مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي أو الرئيس السوري بشّار الأسد أنها من مظاهر النفاق السياسي، لكن مقتضيات العلاقات السياسية تفرض على القائد التعامل مع سلطات موجودة على أرض الواقع، من منطلقات الندّية، ومراعاة مصالح الأمة.

رابعا، تحدّي تعديل الدستور الذي يعود إلى أزيد من 40 سنة، يعزّز الحقوق والحريات، ويكرس ثوابت الدولة الإسلامية وهوّيتها، ويضمن التوازن بين السلطات.

تحدّي تعديل الدستور الذي يعود إلى أزيد من 40 سنة، يعزّز الحقوق والحريات، ويكرس ثوابت الدولة الإسلامية وهويتها، ويضمن التوازن بين السلطات

سادسا، على خلفية تجذّر الدولة العميقة ومقاومتها كل الإصلاحات، أردوغان ملزم بتولية الكفاءات، أمثال هاكان فيدان، وزير الخارجية المبدع في إدارة الدفة الدبلوماسية من خلفية تمرّسه بملفات المخابرات، وعلي يرلي كايا الذي يتقن إدارة وزارة الداخلية من منطلق درايته بكل الملفات الشائكة، مثل الأمن واللاجئين، ويوسف تاكين وزير التعليم، وهو ذو أفق ورؤية يهندس لتلقين الناشئة المبادئ الإسلامية.

سابعا، حتمية مراجعة بعض المعاهدات الدولية التي مرّ على توقيعها بعد الحرب العالمية الأولى حوالي قرن، ومن أهمها سيفر 1920 ولوزان 1923، بإدراج بنود تتعلق بتقاسم الحقوق بشكل عادل، وبأحقّية التنقيب على النفط، والسيادة على المضيقين، البوسفور والدردنيل، والحصول على رسوم مرور السفن، وتجسيد مشروع العصر قناة إسطنبول.

 وعلى الرغم من شراسة إعلام غربي معادٍ له، تمكّن أردوغان من الفوز، ولا سيما حينما بلغ المجتمع التركي أقصى درجات الوعي، وآمن بهذا القائد وأحبّه لصدقيته، وإدراكه البعد الاستراتيجي المتعلق ببناء الأمة التركية، والارتقاء بها إلى درجات العلا، واستعادة ما يمكن استعادته من الحقوق المغصوبة، عكس تفكير ساذج في أوساط معارضة جعلها بوقا لخصوم ومنفذة لاستراتيجيات مرسومة سلفا بمخابر أجنبية بغرض إضعاف الدولة وترويضها. كما أن أردوغان استطاع أن يثبت للشعوب الإسلامية العربية أن الحرية واستقلال القرار الاقتصادي ليسا مستحيلين، بل متاحان لكل من توفرت له النية الصادقة والعزيمة لتحقيق ذلك. وهذا ما يفسر سرّ فرح ملايين من المسلمين والعرب بفوز هذا الزعيم. نسأل الله له الحفظ والسلامة من كل مكروه، وأن يُلهمه سداد الرأي، وأن يقيّض له البطانة الصالحة. ومن حكم كان يردّدها السلطان عبد الحميد الثاني "ليس التاريخ من يتكرّر بل الأخطاء هي التي تتكرّر".

العابد بكاري
العابد بكاري
باحث جزائري في العلوم القانونية والاقتصادية