"مسار الأزرق الحزين" إلى ميلاد جديد
ماذا يرى من نظر في وجه الموت؟ في كتابه "مسار الأزرق الحزين" يشارك الشاعر والكاتب المصري، علاء خالد، تجربته مع ملامسة النهر الفاصل بين الموت والحياة، بعد أزمة صحية جسيمة. أحمل إعجاباً قديماً بلغة علاء خالد النثرية الشعرية، منذ عرفته عبر قراءة روايته ذات العنوان البديع "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر.."، عن تاريخ عائلة سكندرية يتتبع معها تحولات المجتمع والمدينة، ثم عرفته شخصياً حين ساهمت قبل سنوات بكتابة نص لمجلته الثقافية "أمكِنة"، فكان شخصه ككتابته.
بشكل عام، تركز كتابات خالد على أثر المكان والزمان على البشر، وكذلك دائماً ما يجد الأسئلة الفلسفية المتعمقة في أبسط التفاصيل اليومية، فضلاً عن تحليه بصدق إنساني وشجاعة في البوح بمكنون ذاته، وهو ما واصله بتميز في هذا الكتاب.
يقدّم سرداً ظاهرياً وباطنياً مميزاً لوجوه بشر صادفهم في رحلته، مثل المريض عاشق البرتقال، والمريضة "صديقة الجن"، ومن قبلهم شخصية الطبيب المتردّد، الذي تسبب خطأ منه في إجراء عملية بسيطة إلى المأساة التي عاشها خالد. يصفها خالد بالعلاقة بين قاتل وقتيل. اعترف الطبيب، لكن خالد فضّل عدم مقاضاته، فلا شيء سيعيد له ما فقد في تلك التجربة. كما يتناول تأثير التجربة على علاقته بزوجته الفنانة سلوى رشاد، التي كان يخشى أن يخذلها ويتركها وحيدة.
ومن الشخصي إلى العام، حيث يطوف ملامساً الأدب والفنون والسياسة. يقارن مشاعره بالمغترب الذي "تتجمد كل مشاعره التي أتى بها، ليستعيدها في الأعماق، وبصورة مختلفة، ربما بإيذاء نفسه، كي يستعيد صورة انقلبت تمامًا جغرافيًّا ونفسيًّا". هكذا يرى مصطفى سعيد، بطل رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، كذلك بطل سهيل إدريس في "الحي اللاتيني"، وبطل يحيى حقي في "قنديل أم هاشم". كلهم ثوريون بشكلٍ ما، وكلهم "يتجهون ناحية الغرب كالفراشة التي تحترق من شدة اﻻنجذاب". ينطلق من هذه النقطة إلى تناول تجربته مع إقامة أدبية طويلة في ألمانيا، كاد أن يفقد فيها حياته أيضاً بعد اندلاع حريق مفاجئ في منزل يقيم فيه.
في فصل آخر يقارن بين تجربتي السجن والموت، اللذين كان يجد فيهما أيام شبابه أقصى درجة لاختبار الوعي. "كنت أشعر بأنني، بعدم تعرّضي للسجن وسلب حريتي الخارجية، لن أكتشف نوعًا آخر من الحرية الداخلية، وأنني لم أتحرّر بعد من الداخل".
هذا الدور الذي قامت بما يشبهه لاحقا تجربة الاقتراب من الموت، فأهمية التجارب تأتي من اقترابها من اللاوعي، "ليس فقط من أجل تحريره واستبدال الوعي به، بل من أجل اكتشاف هذا الجسر الذي يصلنا به". وكما حمل السجن لعديدين تجربة ميلاد جديدة، تعرّف عليها بتأثر بالغ في "كراسات السجن" لغرامشي، وكذلك "مذكّرات برجوازي صغير" للفرنسي ريجيس دوبريه، فقد حملت تجربته له ميلاداً جديداً.
يقارن خالد الميلاد الأول بالميلاد الثاني له كبيرا، حيث يختلف الاثنان في وعي الإنسان بهما، فقد فاته الفرح بالميلاد الأول، إلا أن كليهما يجمعه الاقتراب من الموت وصوره مثل الفراغ الخالي من المساحة، والنفس التي لا تجد مركزاً، والجسد الذي بلا ذاكرة..
أورثته التجربة صدمة مستمرة، من مدى قرب الموت المفاجئ، "هذا الغدر المتوقع في كل لحظة، لأن الأمل هو مكانه المفضل للسكن"، حتى أن فرحته بالنجاة ذابت سريعاً، كأن مواجهة الموت تسحب الفرح وتثقل الوعي بمواجهات جديدة، بعدما تفتح صندوقاً للتذكّر لا يتم فتحه إلا في لحظة الوداع الأخير.
إلا أنه في نهاية الكتاب يعود إلى الأمل، لكنه أمل ينتظره ولا يطارده، فهو مستسلم لواقع الضعف البشري أمام الحياة والموت: "كنت أعيش في حيز المعجزات، حتى استمراري في الحياة نفسه أصبح معجزة. كانت هذه اليد، وتكرار ظهورها، كالوحي، تتعدى في تأثيرها حدود الشبكة النفسية التي نسجها رسول الموت من حولي. لم أُلِحَّ في استدعاء هذه اليد، فَلْتأتِ كيفما يحلو لها".