"لا تنظروا إلى الأعلى" .. مواجهة الشعبوية بسلاحها
في فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (إنتاج شبكة نتفليكس) نشهد صيحة ضد ظواهر سياسية وإعلامية عديدة تهدد بفناء البشرية إذا تم مدها على استقامتها.
يمثل ليوناردو ديكابريو دور عالمٍ يحذّر من نيزكٍ يتجه مباشرة إلى الأرض، وسيؤدّي إلى تدميرها بعد ستة أشهر، لكن المفاجأة أن أحداً لا يمكنه مجرّد الحديث بجدّية فضلا عن تحمّل مسؤوليته. يحوّل الإعلام السطحي الأمر إلى مزحة، حيث يستوي خبر تهديد البشرية بالفناء مع خبر انفصال نجمة غنائية عن صديقها، كما تحوّله مواقع التواصل الاجتماعي إلى "تريند" وتحدّيات تافهة جديدة، بل إن انهيار العالمة الفلكية غضبا من تعامل الإعلام يتحوّل فقط إلى مصدر لـ"الكوميكس" و"الميمز".
على المستوى السياسي، لم يكن الوضع أفضل، فالرئيسة الأميركية ترفض التفكير العلمي، ولا تعبأ إلا بحسابات السياسة، حتى أنها، في النهاية، تحذّر جمهورها من النظر إلى أعلى كي لا يروا النيزك القادم، وتتهم من يفعل بالخوف ونقص الوطنية، كما أن حال كبار رجال الأعمال لم يكن أفضل، وهكذا تتم إضاعة الوقت حتى يفوت الأوان.
أبدى منتقدون للفيلم استياءهم من لغته الخطابية، والسخرية من شخصيات معروفة بصورة مباشرة، مثل الرئيسة الأميركية (ميريل ستريب) التي تمثل ترامب، ونجلها الأحمق الذي تولى منصب مدير موظفي البيت الأبيض، في إسقاط على الصبي المعجزة جاريد كوشنر، فيما تبدو شخصية رجل الأعمال الساعي إلى الثراء من مكوّنات النيزك عبر خطة علمية غير محكمة أقرب إلى إيلون ماسك أو جيف بيزوس. وشبّه بعضهم "لا تنظر إلى الأعلى" بأنه أقرب إلى نمط برنامج "إس إن إل" الكوميدي الذي كان يعمل فيه كاتب الفيلم ومخرجه، آدم مكاي، حيث تغيب العديد من الجوانب الفنية الأعمق مقابل كوميديا مسطحة.
ولكن أليس هذا هو بالضبط الجمهور الرئيس المطلوب أن يصل إليه الفيلم؟ من المفترض أنه لا يستهدف الجمهور المهتم أصلا بقضايا التغير المناخي، والخطاب الإعلامي، وسواها، بل هو موجّه تحديدا إلى جمهور "فوكس نيوز" التي لاقت نصيبها من الإسقاط في الفيلم. لقد تم استخدام النمط "الهوليودي" السطحي نفسه، بمكوناته الكلاسيكية، لإيصال رسالة مهمة عبر مخاطبة العواطف والعيون قطاعات من الجمهور تتلقى هذا النوع من الرسائل الشعبوية طوال الوقت عبر وسائل أخرى.
على سبيل المثال، لطالما تناولت أفلام أميركية فكرة إنقاذ العالم من زاوية مركزية أميركية، بينما يتم في هذا الفيلم توظيف المركزية ذاتها بشكل معكوس، إذ يتسبب الفشل الأميركي في تدمير العالم، على الرغم من عدم منطقية ظهور الصين وروسيا وأوروبا عاجزة بصورة هزلية في الحالتين. كما غاب عن الفيلم أي تحليل معمّق لجمهور الرئيسة الجاهلة، فهم يظهرون كحشود من متبعي الغباء، وليس أصحاب دوافع اقتصادية واجتماعية ونفسية مركبة، وهو ما لا يغيب عن آدم مكاي، صاحب "ذا بيغ شورت" عن الأزمة المالية العالمية، لكنه فيما يبدو تعمّد الابتعاد عن أي تعقيدات في رسالة الفيلم المباشرة، كأنه لا يفلّ التسطيح إلا التسطيح!
على أرض الواقع، ما زال عالمنا مرتبكا أمام تطورات العقود الأخيرة التي شملت ظواهر مثل دفق المعلومات الهائل من مواقع التواصل الاجتماعي، والانتشار السريع للأخبار الكاذبة والأفكار غير العلمية، وصعود السياسيين الشعبويين من خارج المؤسسات السياسية. شهدنا توسّعا كبيرا لطوائف منكري كروية الأرض، ومعادي اللقاحات، ومعتنقي الأفكار اليمينية العنصرية، وذلك في قلب الدول الغربية المتقدّمة ذات التعليم الأفضل.
وفي مواجهة ذلك، ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات أكاديمية وكتب تطرح تفسيرات متنوعة ومعقدة لما يحدُث، حيث تمتد الأسباب المحتملة من مشكلات غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية، مرورا بالحاجة لتعميم تعليم القدرة التقنية والذهنية على التفرقة بين الأخبار الزائفة والحقيقية، ونهاية بتفسيراتٍ نفسيةٍ، بل وكيميائية بحتة، عن أثر النواقل العصبية والجينات في اعتناق البشر أفكارا معينة.
يُحسب للفيلم أنه أدّى إلى توفير تلك الأرضية الواسعة عالميا لنقاش قضاياه، والخطوات التالية مسؤولية نخب سياسية وثقافية في العالم عليها واجب إثبات أنها ليست بهذا العجز.