"صحوة الموت" .. دعوة إلى حل وسط تاريخي
يقدّم الكاتب المصري، عبد العظيم حمّاد، في كتابه "صحوة الموت: الفصل الأخير في رواية يوليو 1952"، رؤية بانورامية لماضي نظام الحكم المصري وواقعه ومستقبله. وعلى الرغم من أن الكتاب تجميع مقالاتٍ سبق نشرها، إلا أن الترتيب الدقيق لها، وكذلك ما أضافه لها تنقيحا أو تفصيلا، أدّى إلى خروج الكتاب في صورة متصلةٍ يندر أن نجدها في كتب المقالات الشبيهة. وقد أمضى حماد جل حياته المهنية في صحيفة الأهرام، الحكومية العريقة، ووصل إلى منصب رئيس تحريرها بعد ثورة يناير، ولعل هذا من أسباب فهمه العميق بنية الدولة المصرية، وكذلك سعيه إلى الوصول لحلول آمنة، غرضها إصلاح مؤسسات الدولة، لا هدمها.
يحمل الباب الأول من الكتاب عنوان "الأساطير المؤسِّسَة لضرورة استمرار نظام يوليو"، ويفرد مساحة واسعة للرد على أسطورة أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية. يفند حجّة شرط انتشار التعليم قبل الديمقراطية. تاريخيا، لم يكن عامة الأميركيين متعلمين، حين كتب الآباء المؤسسون دستورهم، وهذا نفسه ما ينطبق على الإنكليز، وقت إقرار "الوثيقة العظمى"، أو الفرنسيين إبّان الثورة الفرنسية.
ومن زاوية أخرى، أثبت شعبنا المصري، منذ زمن بعيد، أهليته السياسية، فقد منح الأغلبية في كل انتخاباتٍ نزيهةٍ لحزب الوفد إبّان المرحلة الليبرالية بين 1919 و1952. ولم تفلح كل وسائل الاحتلال البريطاني والملك في تغيير هذا الاختيار. يتشدق بعضهم بلوم الشعب الذي انتخب الإخوان المسلمين مقابل "الزيت والسكر"، لكن حمّاد يشير إلى مفارقة أن الرواية الرسمية تقول إن ثلاثين مليون مصري قد شاركوا في مظاهرات "30 يونيو"، فكيف يستقيم نعت الشعب بالجهل حين انتخبهم، ثم امتداح وعيه حين خرج ضدّهم، ثم العودة إلى نعته بالجهل تهرّبا من الاستحقاق الديمقراطي؟ وينتقل حمّاد إلى تفنيد أسطورة أن الشعب المصري كسول عبر أمثلة عدة، ثم يجادل مطولاً ضد أسطورة "المؤامرة العالمية" التي تمتدّ منذ هزيمتنا في حرب 1967 ونهاية بالربيع العربي، وكذلك تطرّق إلى أسطورة نجاح دولة يوليو في ضمان الاستقرار في مصر، والتي فنّدها بتتبع تاريخي دقيق.
في الباب الثاني "الجيش والمجتمع"، يناقش حمّاد أسئلة جدلية، مثل هل حقا ثمّة علاقة خاصة ومختلفة عن باقي الدول بين الجيش المصري والشعب المصري تحديدا؟ يجيب حمّاد مستعينا بتجارب دول عديدة، مثل سنغافورة والجزائر وتركيا وباكستان وفرنسا، ليخلُص إلى تشابهات في أنماط تلك "العلاقة الخاصة"، وكذلك إلى أن أحد الفروق الرئيسية بين دول ناجحة وأخرى فاشلة يعود تاريخيا للفارق بين نظام سلطوي حقّق شرعية الإنجاز عبر نجاحه في بداية مسار النهضة، ثم أمكنه، اعتمادا على مؤسسات ذات كفاءة، أن ينتقل إلى التحوّل الديمقراطي، وبين أنظمة سلطوية لم تنشئ أي مؤسّسات حقيقية، وجرفت الحياة السياسية لاجتثاث أي بديل.
يشرح حمّاد بأسلوبه المنظم المعهود أسباب قناعته بأن دولة يوليو لن تعود إلى صباها، وتتلخص الأسباب في تناقضات النظام الداخلية، وكذلك تحوّلات المجتمع المصري، فضلا عن تحولات البيئة الدولية والإقليمية، ونهاية بالفروق الفردية بين القيادات في المراحل الأربع لهذا النظام.
أنهى حمّاد الكتاب بالباب الثالث تحت عنوان "البحث عن خلاص"، وفيه يدعو إلى "حل وسط تاريخي"، يتلخص في انسحاب الجيش من الحكم المباشر، وإسناد السلطة للمدنيين عبر انتخابات نزيهة، وكذلك تغيير بنية الدولة المركزية بتوزيع السلطة عبر مؤسّسات مستقلة وانتخابات محلية، بينما يحتفظ الجيش بدور رئيسي في ملفات الأمن القومي أسوةً بتجارب أخرى، فللجيش التركي الرأي الحاسم عبر قنوات دستورية محدّدة في قراراتٍ مثل انسحاب تركيا من حلف الأطلسي (الناتو) أو بقائها فيه، أو في إغلاق القواعد الأميركية.
يؤكّد حماد دور القوى الديمقراطية والنخب السياسية في الدفع بذلك الاتجاه، وليس انتظار تحققه تلقائيا، إلا أنه يشدّد أيضا على وجود أسباب تدفع "الدولة العميقة" إلى أن تصل، في النهاية، إلى حقيقة أنها لن تستطيع مواجهة المشكلات المصرية الوجودية الضخمة من دون مشاركة حقيقية من مجتمع منظّم وقوي.