"النصر الإلهي" .. عودة إلى السياسي واحتكاره
في معظم الديانات، الصراع بين الخير والشر أزلي. يصدر الخير عن الله، والشر عن الإنسان أو الشيطان، وتبدو الحياة الدنيا معركة بين حزب الله وحزب الشيطان، لا بد من أن تنتهي بفوز الفريق الأول تحقيقاً للسعادة الأبدية. وفي الإسلام، يعد الله المؤمنين بالتمكين والنصر في مواجهة قوى الشر؛ "وكان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين"، وبإظهار الدين؛ "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون". في زمن النبي وحتى اليوم، لم يكن النصر دائماً حليف المؤمنين (معركة أُحد مثلاً)، ولم يتحقق ظهور الإسلام على الدين كله (25% فقط من سكان العالم اليوم يدينون بالإسلام)، ولا تزال معظم مجتمعات دول العالم الإسلامي بعيدة عن أي تمكين؛ تحتل مراكز متأخرة في المؤشّرات العالمية المتعلقة بمجالات مختلفة (الاقتصاد والتعليم والصحة والحريات والرفاهية وغيرها).
أحد الحلول الممكنة للخروج من هذا التناقض التي قدّمها علم اللاهوت بخصوصيته الإسلامية (علم الكلام)، تمثّلت في النظر إلى "النصر الإلهي" بوصفه نصراً مرحلياً، لا يتحقق للمؤمنين الذين خاضوا المعركة الراهنة، بل لأبنائهم وأحفادهم، وأجيال المؤمنين اللاحقة، والموقف الذي استقرّت عنده المذاهب الإسلامية الرئيسية، السنية والشيعية، هو المطالبة بعدم استعجال سنن التمكين، وأن النصر، النهائي (المطلق)، لن يتحقق إلا في آخر الزمان مع رجعة المهدي المنتظر، الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً. مثّل المهدي المنتظر "النصر الإلهي" المؤجّل، لكن لم ينجم عن هذا "الوعي الانتظاري"، إن جاز التعبير، أي خطة سياسية براغماتية، ولم يتعدّ أن يكون طريقة نظر بها المؤمنون إلى واقعهم في أجواء من عزاء وسلوى طوّروا من خلالها حياتهم الداخلية، وهو ما سيتغير لاحقاً.
استدعت الغيبة الكبرى النيابة العامة للفقهاء، بعد أن استدعت الغيبة الصغرى النيابة الخاصة للسفراء، مع فارق أن الثانية تعيّنت بإذن من الإمام، بينما تعيّنت الثانية اجتهاداً وتأويلاً
عند الشيعة، أصبح مصير ذرّية النبي رمزاً للصراع الكوني بين الخير والشر، لكن اليد العليا ظلّت لـ"قوى الشر". أمام هذا الإخفاق، انصرف الشيعة مع جعفر الصادق، إمامهم السادس، عن السياسة للتفرّغ لأساليب التأمل الباطني، وبعد الغيبة الصغرى (260 هـ - 329هـ) للإمام الثاني عشر، أبو القاسم محمد (المهدي)، وفق اعتقاد الشيعة الاثني عشرية، تواصل الأخير مع الناس عبر سفرائه، لتبدأ بعد موت رابعهم غيبته الكبرى المستمرة، التي انقطع معها أي ارتباط مباشر به، إذ لم يعيّن هذه المرّة أي سفراء أو وكلاء، لكنه سيعود في آخر الزمان لتحقيق "النصر الإلهي" الموعود. كان الاعتقاد بالرجعة تعبيراً عن إقرارٍ بالخروج النهائي من حيّز السياسي، وفي ظل حكومةٍ غير شرعيةٍ قائمة اغتصبت حقّ الإمام الغائب في الحكم، توجّب على علماء الشيعة ألا يشغلوا أي مناصب سياسية. هذا الوعي الانتظاري أفرز فقهاً إخبارياً روائياً يرفض الاجتهاد، وتعليقاً لوظائف الدولة الدينية الرئيسية نحو: جباية المال، والجهاد، وإقامة الحدود، وصلاة الجمعة، وغيرها من أمورٍ يكون تمامها بوجود الإمام المعصوم. لكن مع استطالة ظهور المهدي، وإلحاح الحاجة، في ظل استمرار تعدّي الحكومة المدنية على النظام الإمامي، وتعليق شرعية كثير من الأعمال المرتبطة بالمجتمع، وما يشكّله من خطر على الجماعة المؤمنة، فتح بعض الفقهاء أبواباً فقهية كانت محكمة الإغلاق، وشكّلوا في مقابل التيار الإخباري تياراً أصولياً فتح باب الاجتهاد. وهكذا، استدعت الغيبة الكبرى النيابة العامة للفقهاء، بعد أن استدعت الغيبة الصغرى النيابة الخاصة للسفراء، مع فارق أن الثانية تعيّنت بإذن من الإمام، بينما تعيّنت الثانية اجتهاداً وتأويلاً. مهّد ذلك لـ "ولاية الفقيه" التي خرقت الإجماع الشيعي في الولاية، على يد المولى أحمد النراقي (1215 ــ 1297 هـ) الذي عزّز دور الفقيه مثبّتاً له كل ما هو للنبي وللإمام، لينوب عنهما في قيادة الأمة، وإدارة شؤونها، والقيام بمهام الحكومة الإسلامية، وإقامة حكم اللّه على الأرض. فتحت "ولاية الفقيه" باباً واسعاً للعودة إلى السياسي، وهي النظرية التي سيعيد الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" إحياءها نظرياً؛ حين أكّد أن كل حكم غير حكم الأئمة ونوّابهم من فقهاء الشيعة هو غير شرعي، وعملياً؛ بقيادته للحكومة الإسلامية بعد ثورة 1979.
إلغاء الخلافة العثمانية عام 1922 أحدث صدمة في العالم الإسلامي السنّي، وبدا الإسلاميون قلقين على الشرعية الغائبة في ظل حكومةٍ زمنية
على الرغم من تسرّب الاعتقاد برجعة المهدي المنتظر (المسيح بن مريم في بعض الأحيان) إلى التدين الشعبي عند أهل السنة، إلا أن المهدي هنا ليس الإمام الغائب عند الشيعة الإمامية، بل هو مهدي متعبّد على المذهب السني، يسمى محمّداً، سليل آل بيت النبي، ليس غائباً وإنما يولد في آخر الزمان كما يولد أي إنسان آخر. استمرار الخلافة الإسلامية (وإن بقيت خلافة شكلية تم التنازع بشأنها والطعن في شرعيتها في غير مرحلة تاريخية) حال دون أي شرعية غائبة في انتظار ظهور المهدي، بعكس ما كان عليه التدبير الشيعي خلال غيبة الإمام الكبرى، لكن إلغاء الخلافة العثمانية عام 1922 أحدث صدمة في العالم الإسلامي السنّي، وبدا الإسلاميون قلقين على الشرعية الغائبة في ظل حكومةٍ زمنية، وكان لا بد، في نظرهم، من العودة إلى السياسي لإنقاذ الديني، وبدأت التنظيرات للإسلام السياسي التي شكّلت الأيديولوجية المرجعية لحركات الإسلام السياسي على طول العالم الإسلامي وعرضه، وكان قاسمها المشترك الانقلاب على الوعي الانتظاري السائد، وبعد أن كان للباطل جولات ينتصر في نهايتها الحق بالضربة المهدوية القاضية، سيكون للباطل جولة وللحق جولات، وانطلاقاً من التراث الإسلامي "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" جرت محاولات صنع ملاحم وبطولات معاصرة.
إذا كان نصر الله النهائي مؤجّلاً لعدم نضج الأمّة، فإنه لا بد من معارك معجّلة تكتسب فيها الأمة الخبرة المناسبة
كان لا بد من فتنة ولا بد من امتحان وبلاء، ولا بد من الصبر، فالنصر الرخيص لا يدوم، بحسب سيد قطب ("في ظلال القرآن")، لأن الدعوة الهيّنة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العنيفة الصعبة فلا يتبنّاها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء، وإذا كان نصر الله النهائي مؤجّلاً لعدم نضج الأمّة، فإنه لا بد من معارك معجّلة تكتسب فيها الأمة الخبرة المناسبة، فالطاقات المذخورة في البنية الإنسانية لا تستيقظ كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وحين تدفع وتدافع. ذهب الخميني في وصيّته "الإلهية السياسية" إلى أن الثورة الإيرانية فريدة، فرادتها في أنها هدية إلهية غنيّة تلطّف بها الله على شعب مظلوم، لتبدو معه تلك الثورة حلقة افتتاحية في سلسلة طويلة من حلقات "النصر الإلهي" المعاصر.
بات "النصر الإلهي" ميكانيزمَ كل مليشيا إسلامية مسلحة، حتى المُقاوِمَة والمُمانِعَة منها، وبأسطرة النصر (من أسطورة)، يصبح سرمدياً؛ لا يخضع للمقاييس الدنيوية العسكرية والفنية؛ خارج اشتراطات الواقع والتاريخ، فإما النصر أو الشهادة، والأخيرة ليست هزيمة بل غاية. وبهذا النصر، تختصّ فئة معينة دون غيرها، هم أولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جند الله، المخاطبين بآياته، المعنيين بالمعونة والنصر، والمتفردين في امتلاك "حقيقة" الإسلام، المعبّرين عن الإرادة الإلهية، لا يُناقَشون، ويمنحون أنفسهم الشرعية في قمع كل ما من شأنه أن يتعارض مع شروط النصر المعجّل قولاً وفعلاً، فيتحوّلون ضمن حواضنهم الاجتماعية مستبدين طغاة، لا يقلّون استبداداً عن طواغيت الأرض الذين ادّعوا الخروج عليهم. إنه وهمهم الفئوي، لا نصر أمتهم ودولهم وسائر قومهم. هكذا يصبح "النصر الإلهي" أبلغ تعبير، لا عن العودة إلى السياسي فقط، بل واحتكاره أيضاً.