"العالَمُ وهو يَهْجُرُنا"

30 اغسطس 2022
+ الخط -

لا تدري كيف تتناول كتاب بلال خبيز، الصادر أخيرا عن دار النهضة العربية بعنوان "العالم وهو يهجرنا"، في مقالة قصيرة، محدودة الكلمات. وذلك أوّلا لسِعَة موضوعاته وتنوّعها، وثانيا لما تُثير فيك من شهوة التوسّع في القراءة والتعليق والمناقشة، فكلّ مقالة من مقالات الفصول الخمسة (مع مقدّمة وخاتمة) تتناول جانبا مهمّا في تظهير ما آلت إليه أحوالُنا في هذا العالم الهارب منّا، سواء كنّا من سكّان المدن الكبرى المركزية التي تسنّ قوانين العيش في هذا العالم وتصدّرها، أم كنّا أبناء الجزء المنسيّ منه. 
منذ العنوان، يُستثار فضول القارئ ورغبة المعرفة والغوص أبعد، إذ إننا لسنا من نهجر عالما لنا عليه مآخذ أو بات لا يُرضينا، بل هو العالم يهجرنا حين لا نكون على مقاساته المستحدَثة، جِسْمًا وفكرا وسلوكا وانتماءً إلى سلطةٍ مطلقةٍ انتقلت عمليا من يد الدولة إلى القطاع الخاص. وفي الهجر هنا بُعدٌ عاطفيّ رومانسيّ يُشبه كتابات خبيز الذي لا بدّ وأنه قد آثر استخدام مفردة الهجر على كلمة الطّرد الخاصّة بقاموس الشركات المالية الكبرى التي باتت توجّه العالمَ وتصنع سياساته. يقول: "الدول لم تعد قادرةً على مجاراة القطاع الخاص في إنماء المدن، فتراجعت العواصم، حيث يكون دور السلطات حاسما في النمو والازدهار وسيادة القانون، وتقدّمت المدنُ التي تحرّكها دوراتٌ اقتصاديةٌ معقّدة لاحتلال المراكز الأولى". ومفاده بأن انهيار منطق الدولة السيّدة والقومية، وتراجع السلطة المطلقة للدولة مع حلول الثروات الكبرى مكانها في صنع الحيـّز العام اليوم، هي ما أحلّت نظامَ الاستهلاك مكان نظام المواطنة، جاعلةً من المواطن مجرّد مستهلِكٍ، وطاردةً غير المستهلِك، أي الفقراء والعاطلين من العمل والمشرّدين، إلى خارج الأحياز العامّة التي يعود للشركات التجارية وحدها إمكان تحديدها. "لا مكان للفقراء في هذا العالم، ولو حدث واختفوا من الوجود، لتحسّنت المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية، وخفتت وتيرة العنف اليومي". هكذا باتت الدولة لمن حلم ويحلم ببنائها مفهوما وهميا وبائدا إزاء تغوّل الشركات الخاصّة عابرة الحدود وصاحبة الميزانيات الأسطورية التي تتعدى في أحيان ميزانيات الدول. 
"السلطات الجديدة تحتكر اتصالاتنا، ورسائلنا، وتسويق منتجاتنا، وتربية أذواقنا، ونوعية الطعام التي يجدر بنا أكلها، وطريقتنا في ارتداء ثيابنا، ومصادر طاقتنا، وتحويلاتنا المالية". وهي تذهب أبعد من هذا بكثير، إذ تتخّذ من الجسم البشري حقل تطبيق، فتصوغ سلوكياته وتحدّد احتياجاته بما يتناسب ومصالحها وإملاءاتها، فالجسم الحديث، بحسب خبيز، مفتّت، مقنَّن، مستوحد ومعزول حتى في الأماكن العامة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. إنه منزوع الحواسّ، شبه صائم عن كل لذّة ومتعة طلبًا للشباب واللياقة البدنية، وهو بلا رائحة، ذلك أن "الأنف هو صانع وحدتنا" طالما كره الكائن البشري روائحه وأنف من إفرازاته. والجسم الحديث هو جسمٌ ممنوع من المرض والهرم، بعد أن بات العالم مقسّما إلى أجسام مهملة، خرجت من السباق، كونها غير قابلة للعرض أو للإصلاح، وأجسام معتنى بها هي في الواقع رياضية معذّبة بالتجويع وبعدم بلوغها الكمال، نظرا إلى حتمية تقدّمها في السنّ. "أجسامنا اليوم في المدن الحديثة، المزدحمة خصوصا، هي أجسامٌ صاخبةٌ تعيش في صخب أعضائها المدوّي، إعلانها الفجّ عن حقها بالتكاسل والاسترخاء، ورغبتها الصارمة في أن تُترك وشأنها وامتناعها المطلق عن دعوة الآخر إلى التماسّ معها. وبخلاف الأزمان السابقة، حين كان الجسم المعتنى به، والمستعدّ للغواية، يعيش في صمت أعضائه الموحي بسلامته وخلوّه من الآثار التي يتركها عليه الوقت، يبدو الجسم المعاصر جسما صاخبا لا يمكن الاقتراب منه (...) وها نحن نخسر الإغواء الذي هو دعوة لحب الآخر ورغبة في الاتصال به، لنستعيض عنه بالرغبة الصرف التي نربيها وننمّيها في عزلاتنا عن العالم، ما يجعلنا مستعدين لتحويل أي علاقة حبّ إلى عملية اغتصاب".  
أجل، ربما وجب أن نطرد أنفسَنا إلى خارج هذا العالم "الحديث"، لكي نرى إلى ما رأى إليه بلال خبيز، أن نتخلّص من أدرانه وجزيئاته المسمومة لنستعيد أجسامنا المستلبة وأرواحنا المعزولة، ولكي نعترف أخيرا بأننا، نحن الذين أفلَ عالمُنا، سيكون صعبا علينا الانتماء طوعًا إلى هذا العالم الجديد.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"