"التعثر الديمقراطي" في المؤشّر العربي
يمثّل المؤشّر العربي لدراسات اتجاهات الرأي العام خزّاناً كبيراً ومهماً لإعادة تقييم الأوضاع العامة في البلاد العربية ودراستها (شمل الاستطلاع هذا العام (2019/ 2020) 13 دولة: موريتانيا، والمغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والسودان، وفلسطين، ولبنان، والأردن، والعراق، والسعودية، والكويت، وقطر). ومن الضروري أن تتبعه مناقشات وحوارات مفصّلة للموضوعات والمناطق التي شملها، وأن يستخدم كأحد المصادر الرئيسية في المعلومات.
ثمّة قراءات عديدة واستنتاجات وخلاصات يمكن الوصول إليها من المؤشر، وهنالك جانب وصفي - تحليلي أعدّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يجري المؤشر، والمشرف عليه محمد المصري هو من الخبراء العرب المتميزين والمعروفين في مجال استطلاعات الرأي، وكان مشرفاً قبل ذلك على الاستطلاعات في مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، وأعرف شخصياً مدى جدّيته ومثابرته في العمل والإنجاز والاحترافية في طرح الأسئلة.
يبدو بعض هذه الأرقام - الاتجاهات واضحاً ومفهوماً ومنطقياً؛ كقراءة أولويات الشارع العربي (تطغى الهموم الاقتصادية والمعيشية)، ورؤية المواطنين لحجم الفساد المتغلغل، السياسي خصوصا، واعتباره السبب الأول لثورات الربيع العربي، وكذلك لارتفاع حجم مصادر التهديد الداخلية؛ كالمخدّرات والإرهاب والفجوة بين الفقراء والأغنياء، مقارنة بالتهديدات الخارجية التي طالما وظّفتها الأنظمة العربية لتبرير السلطوية الداخلية).
وفي الحديث عن مصادر التهديد، هنالك أيضاً اتجاهاتٌ لافتة فيما يتعلق بالخارجية؛ فإسرائيل لا تزال تتصدّر القائمة، لكن إيران بالنسبة لدول الخليج والعراق هي التي تتصدّر، ما يرتبط بالضرورة بالتحول الكبير في الدور الإقليمي الإيراني منذ احتلال العراق 2003، وبدرجة أكبر مع الثورة السورية، والسياسات التي توظّف العامل الطائفي في الإقليم.
الأرقام الملتبسة (التي تتطلب قراءةً تفكيكيةً معمّقة) تلك التي ترتبط بالديمقراطية، فعلى الرغم من التأييد الكبير للنظام الديمقراطي (كما عنونت صحيفة "العربي الجديد" في عرض المؤشر)، ومن اعتبار التقرير أنّ الأغلبية قادرة "على تقديم تعريفٍ ذي محتوى للديمقراطية" (بربطها بالحرّيات المدنية والسياسية، وضمان العدالة والمساواة بين المواطنين وتداول السلطة .. ) بنسبة 89%، وهي نسبة مرتفعة جداً، لكن عندما نقارن بين هذا التعريف النظري وتقييم المواطنين أنفسهم لواقع بلدانهم ولبعض أساسيات الثقافة الديمقراطية تبدو الفجوة (وبتعبير أدقّ الصدمة) كبيرة، وغير مفهومة من دون تحليل ونقاش. وهنا تبرز إشكالية حقيقية في قراءة هذه الاتجاهات في بلاد مثل مصر والسعودية، وربما يقودنا ذلك إلى سؤال آخر عن مدى مصداقية إجراء الاستطلاع في هذه البلاد في ضوء الصراعات الإقليمية المعروفة!
من الأمثلة الأخرى، يتبدّى الموقف من استلام حزب الحكم يأتي عن طريق الانتخابات الحرّة والنزيهة، لكن لا يتفق مع رأي المجيب، لنجد أنّ هنالك 51% يقبلون، بينما 43% يرفضون، والبقية حائرون، معنى أن قرابة 50% يرفضون أحد أهم أعمدة النظام الديمقراطي، وهي التعددية السياسية، ثقافياً أو قيمياً. ثم عندما يسأل الاستطلاع عن مدى ملاءمة الديمقراطية للمجتمعات العربية، 40% يوافقون على ذلك، و10% حائرون، أي النصف، وهكذا نجد أنفسنا أمام أرقام يمكن وصفها بـ"المركّبة" بحاجة من الباحثين والخبراء لمزيد من الدراسة والتحليل الاجتماعي والثقافي والسياسي.
كمتابع، لم أستطع أن أقرأ ما وراء الأرقام بين الأعوام التي قارن بينها المؤشر العربي، منذ الربيع العربي، أي نتحدث عن تسعة أعوام تقريباً، نعرف أنّها شهدت تحولاتٍ مفصليةٍ كبيرة، قلبت وجه المنطقة ومعادلات الدول والأمن الإقليمي والوطني لأغلب الدول العربية، ما بين ثوراتٍ شعبيةٍ وثورات مضادّة وموجات ثانية من الاحتجاجات، لكن بالأرقام لا يبدو الفرق واضحاً ولا أسبابه وسياقاته، بل غالباً الأرقام متقاربة!
المفيد في الموضوع أنّ هذا الاستطلاع أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو مؤسسة بحثية مرموقة، تمتلك القدرات والكفاءات العالمية والعربية، لذلك من الضروري أن تكون هنالك قراءات وتحليلات متخصصة في استنطاق الأرقام ودلالاتها، وتقديم دراسات نوعية مبنية على الرقمية، لنفيد منها في عالمنا العربي المثقل بالهموم والأزمات والتحدّيات ومصادر التهديد والتحولات، في فجوةٍ حقيقيةٍ مع الدراسات العلمية الموضوعية القادرة على إضاءة ما يحدث.