"إيران والسعودية: ترويض صراع فوضوي".. في تحليل الأدوار والمنافسات
شكّل احتلال العراق في عام 2003 وخروجه من النظام السياسي العربي، واقعاً إقليمياً جديداً في الشرق الأوسط. وجاء هذا الواقع في ظل نظام دولي لا مركزي، تعد الفوضوية السمة الأبرز له. وعلى ذلك، دعت هذه الفوضوية الفواعل السياسية كافة، والدول ذات السيادة، إلى السعي نحو الأمن، من خلال تعزيز القوة التي أصبحت مفهوماً تحتكم إليه كل الأطراف، ولغة تداول في الحياة السياسية، من خلال سباقات التسلح والحروب الاقتصادية والهجمات السيبرانية وحروب الوكالة في الشرق الأوسط وغيره، لحماية الأمن الوطني والقومي.
تعد إيران والسعودية لاعبين أساسيين في الشرق الأوسط، يسعى كل طرف منهما إلى مد نفوذه الاقتصادي والسياسي في المنطقة، وبناء قوة عسكرية تحافظ على التوازن الإقليمي، بعد الاختلال الهيكلي والبنيوي الذي سبّبه احتلال العراق. هذه المنافسة الإقليمية وتعقيدات العلاقة فيما بينهما انعكستا على كل دول المنطقة والإقليم، خصوصا وأنهما تقودان محورين نقيضين في الأيديولوجيا والرؤى الاستراتيجية، لكنهما تتفقان حول هدف واضح، وهو"قيادة منطقة الشرق الأوسط" التي تعد مصدرا أساسيا من مصادر الطاقة العالمية.
يأتي كتاب "إيران والسعودية: ترويض صراع فوضوي" للباحث إبراهيم فريحات (Iran And Saudi Arabia Taming A Chaotic Conflict: Edinburgh University Press Ltd ,2020)، ليفكك طبيعة العلاقة والصراع فيما بينهما، ويؤطره ضمن الواقع والمتغيرات الحادثة في المنطقة. ويفترض الباحث في كتابه افتراضا رئيسيا، يقوم على أن الصراعات المنظمة أكثر قابلية للحل من الصراعات غير المنظمة، وبالتالي تنظيم هذا الصراع سيجعله قابلاً للحل بشكل أكبر. ويؤصل الباحث في كتابه طبيعة الصراع، من خلال نهج يتناول المجالات كافة، وليس من خلال منظور الدراسات الجغرافية السياسية مثل غالب الدراسات السابقة في هذا السياق التي ترتكز على مفهوم إحداث التوازن الإقليمي في المنطقة، من خلال الصراع على النفوذ والسيطرة داخل الإطار الجغرافي السياسي للفواعل السياسية.
المذهبية ليست سببا حقيقيا وجوهريا للصراع السعودي الإيراني، بل عامل محرّك إلى جانب عوامل متعدّدة، كالقومية والزعامة العالمية والحدود الجيوسياسية
ويؤكد الباحث في كتابه أن هذا الصراع لا يحتكم إلى أي قواعد، ما يجعله صراعاً فوضوياً مثقلاً بالأعباء في ظل انعدام الثقة بين البلدين وغياب التواصل الحقيقي، وسعيهم إلى تعزيز القوة الهجومية، وتبنّي استراتيجيات عدائية. وينتقد الباحث، في كتابه، الدراسات والأدبيات الغربية التي تحيل سبب الصراع إلى المذهبية، معتبراً أن المذهبية ليست سببا حقيقيا وجوهريا لهذا الصراع، بل عامل محرّك إلى جانب عوامل متعدّدة، كالقومية والزعامة العالمية والحدود الجيوسياسية. وعدّ الكاتب أن الأمن يشكل عاملاً حاسماً في حل الصراع بين الطرفين، وذهب في ذلك على نحو مماثل مع ما طرحه كينيث والتز في نظريته الواقعية الدفاعية إن الفوضوية تؤدي إلى ظهور معضلة الأمن، نتيجة عدم تأكد الدولة من نيات الدول الأخرى، ما يدفعها إلى بناء مزيد من القوة. واعتمد إبراهيم فريحات في إعداد كتابه على أسلوب البحث العلمي، من خلال إجراء مقابلات مع باحثين وأكاديميين وسياسيين في مراكز الأبحاث، إلى جانب مشاركته في ورشات عمل معتمدة على دبلوماسية "المسار الثاني"، وهي ممارسة الأنشطة والاتصالات بين الطرفين، من خلال جهات فاعلة غير حكومية وغير رسمية. ويقدّم الباحث في كتابه نموذجا متكاملا لحل الصراع، يعتمد على ثلاثة محاور رئيسية، تركزت في التعريف الدقيق لقضايا الصراع، وإقامة نظام لإدارة الصراع ومن ثم حل النزاعات. ويتوزع الكتاب في ثلاثة فصول رئيسية. يتناول الأول تاريخ العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والعربية السعودية، وجهود صنع السلام في ظل وجود عامل المنافسة الإقليمية. ويتناول الفصل الثاني قضايا الصراع الأساسية والمحرّكة لسياسات البلدين نحو بعضهما بعضا. ويقترح الباحث في الفصل الثالث نهجا متكاملا متعدّد الاختصاصات للحل.
تاريخ التنافس
ينطلق الباحث في هذا الفصل من افتراض جوهري، أن التوتر الحالي بين السعودية وإيران يأتي نتيجة للعلاقات المضطربة منذ أربعة عقود. ويحلل طبيعة العلاقة بين البلدين في ظل ما تكتسبه المنطقة العربية والشرق الأوسط من أهميةٍ في وجود النفط والموقع الجغرافي السياسي، ووجود عوامل مهمة، مثل الاستعمار، حيث أكد الباحث أن العلاقات بين البلدين كانت منضبطةً في ظل وجود قوات الاستعمار البريطانية، لكن التوتر بدأ بالظهور عقب الانسحاب البريطاني، ومحاولات إيران السيطرة على البحرين. ويرى الباحث أن سعي كلتا الدولتين إلى قيادة منطقة الخليج تاريخياً جعلهما في حالةٍ من التنافس الإقليمي. ويناقش انعكاس الثورة الإسلامية في طهران على العلاقات الإيرانية الدولية عموماً، والعلاقات الإيرانية الخليجية خصوصاً، حيث تعاملت الولايات المتحدة مع إيران في عهد الشاه معها بوصفها محور نفوذ ضمن نظرية الرئيس الأسبق، نيكسون "الركيزتان التوأمتان"، حيث مثلث طهران القوة العسكرية، والرياض القوة الاقتصادية، لكن مجيء الثورة الإسلامية أسقط هذه النظرية، ورفعت طهران شعارها لرفض السياسات الأميركية والغربية في المنطقة، لتتغير بذلك التحالفات الدولية والإقليمية التي أدّت إلى انتشار الطائفية التقليدية فيما بعد، وانعكاس ذلك على المستويين، الداخلي والخارجي، للدولتين.
صعود الدور الإقليمي لإيران والسعودية كان تحصيل حاصل، لتراجع الدور السياسي العربي في المنطقة، عقب الانقسام الحاد في أزمة اجتياح الكويت واحتلال العراق، واختفاء الدورين، المصري والسوري
ويعتبر الباحث أن نقطة التحول البارزة في العلاقات بين البلدين كانت عقب احتلال العراق واختلال توازن القوى الإقليمي والطائفي، وخصوصا أن إيران قد بدأت بتحقيق طموحها بوجود سياسي فاعل في الخليج العربي، يبدأ من العراق الذي كان يقدّم نفسه أنه الحامي للبوابة الشرقية للخليج العربي من التمدّد الإيراني، واتخاذ سياسة خارجية جديدة في المنطقة باعتناق القضايا العربية. وقد تزامن ذلك مع تبني السعودية، هي الأخرى، سياسة خارجية بنشاط دبلوماسي مكثف على عدة ملفات عربية، زاحمتها عليها طهران، ونجحت فيها على حساب السعودية، مثل ما حدث في فشل اتفاق مكة المكرمة (2007) لإتمام المصالحة بين حركتي فتح وحماس، فيما دعمت طهران حركة حماس في قطاع غزة، لتعزّز بذلك الانقسام الفلسطيني. وما حدث في أزمة لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري (فبراير/ شباط 2005) وغيرها، وخطف حزب الله المدعوم إيرانيا أسيرين إسرائيليين، ما أشعل حرب تموز (يوليو) 2006 التي شنتها إسرائيل.
ويستعرض مؤلف الكتاب أربع مراحل تصعيدية لهذا الصراع منذ عام 2003، تبدأ من زيادة التوتر، وما تبعه من تغيرات بنيوية في النظام الإقليمي، ثم حروب الوكالة والربيع العربي 2011، وخصوصا في سورية، ثم المواجهة المباشرة في اليمن، عقب دعم إيران جماعة الحوثي المتمردة، وتولي السعودية قيادة عملية عاصفة الحزم ضد ما عدّته الوجود الإيراني في اليمن، وانتهت في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد إعدام السلطات السعودية الداعية الشيعي في القطيف، نمر النمر، في في 2016. ولكن الباحث في هذا الفصل أغفل جانب مهما، هو أن صعود الدور الإقليمي لإيران والسعودية في المنطقة كان تحصيل حاصل، لتراجع الدور السياسي العربي في المنطقة، عقب الانقسام السياسي الحاد في أزمة اجتياح الكويت واحتلال العراق، واختفاء الدورين، المصري والسوري، في ضبط المشهد السياسي العربي، إلى جانب السياسة الأميركية التي أتاحت لحلفاء طهران العودة إلى العراق، وتسلم الحكم فيه ضمن مبدأ المحاصصة الطائفية، وبالتالي صارت الطائفة الشيعية المكون الأبرز في النظام السياسي الجديد في العراق.
قضايا الصراع
يستعرض الباحث في هذا الفصل أهم القضايا المركزية المحرّكة للصراع الإيراني السعودي، ويحللها بناء على قاعدة مهمة، أن الأمن هو لب الصراع بين الطرفين. ويؤكد أن عدم الفهم الدقيق لقضايا الصراع أدّى إلى إنتاج مزيد من السياسات الاستراتيجية السيئة، ومزيد من التوتر في المنطقة، في ظل حالة من الاستقطابين، الإقليمي والدولي، فإيران تبرّر سلوكها في هذا الصراع بشكل أساسي ضمن الحفاظ على أمنها الوطني والقومي، كون السعودية حليفة للولايات المتحدة (وإسرائيل)، في الوقت الذي تنظر فيه السعودية إلى الصراع على أنه طائفي مع رفع إيران شعارات تصدير الثورة وإسقاط الأنظمة الحاكمة في الخليج، ما يجعل هذا الصراع معقداً، خصوصا فيما يتعلق بالصدام بين الاحتياجات الأمنية و"التطويق" الواضح لكل من الطرفين، في ظل انتشار القواعد العسكرية الأميركية في الخليج، وحلفاء إيران في عدة دول عربية، مثل العراق واليمن وسورية ولبنان.
الصراع الإيراني السعودي يفتقر لقواعد اللعبة في ظل عوامل عديدة: مثل التدخلات الإقليمية، ونظام الحكم في كلا البلدين وغيرها
ويؤكّد الباحث أن الصراع يدور أيضاً حول شرعية كل نظام ورغبته في الحصول على دور قيادي في نظام دولي فوضوي. ويتفق في هذا مع نظرية الدور التي تقوم على افتراض أساسي، مفاده بأن الدور السياسي والوطني والخارجي للدول يقوم على أنماط السلوك المتوقعة من نظرة أصحاب القرار في البلاد حول التصورات للدور الوطني، من خلال الخصائص الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة.
إدارة الصراع وحله
يتناول هذا الفصل جزأين أساسيين، يقومان على افتراض رئيسي للكتاب، أن الصراع الإيراني- السعودي لا يحتكم لأي قواعد، ما يجعله صراعاً فوضوياً مثقلاً بالأعباء في ظل انعدام الثقة بين البلدين، وغياب التواصل الحقيقي، وسعيهم إلى تعزيز القوة الهجومية وتبني استراتيجيات عدائية. ويتناول الكتاب هنا آليات إدارة الصراع، انطلاقاً من قاعدة أن الصراعات الأفضل إدارة والتنظيم ملائمة للحل. ويوضح الباحث هنا أن الصراع الإيراني السعودي يفتقر لقواعد اللعبة في ظل عوامل عديدة: مثل التدخلات الإقليمية، ونظام الحكم في كلا البلدين وغيرها. وعلى ذلك، يضع الباحث في كتابه نظاما فعالا لإدارة الصراع، من أربعة عناصر، تبدأ أولاً من أدوات إدارة الأزمات، مثل إنشاء خط ساخن لتعزيز التواصل بين البلدين. وثانياً من خلال الحوار لتعزيز الثقة، وآلية لفهم القضايا بشكلها الصحيح بين الطرفين. وثالثاً تدابير بناء الثقة من خلال إجراءات صغيرة تساعد كلا الطرفين في الدخول في المفاوضات. ورابعاً إنشاء مناطق سلام وحركة عدم انحياز في الشرق الأوسط.
وينتقل الباحث إلى فصل حل النزاع، من خلال وضع لوائح منظمة للصراع تلبي شرطين: معالجة الأسباب والظروف الكامنة للصراع، واتخاذ نهج متكامل للحل من خلال استكمال جهود صنع السلام الرسمية، وتفعيل المسار الثاني والمستوى الشعبي. وقد ذهب باحثون عديدون، على نحو مماثل، حول أهمية الحاضنة الاجتماعية في دعم بيئة القرارات والسياسة الخارجية للبلاد. ويؤكد الباحث، في كتابه، على أن حل الخلل في النظام الإقليمي هو عراق ديمقراطي ومستقل، يتمتع بالسيادة، خال من نفوذ إيران والسعودية والولايات المتحدة.