الرشوة في مصر... سكرتيرو نيابات يتحكمون في مصائر المتهمين عبر المال

12 يوليو 2018
زيادة عدد القضايا السياسية والجنائية في مصر منذ 2013(الأناضول)
+ الخط -
لم يكن أمام المعتقل المصري محمد علي من بد، بعد أن قضي عاما في الحبس الاحتياطي، دون أن يلوح أمل في الأفق بالإفراج عنه على ذمة قضية اتهم فيها بنشر أخبار كاذبة مثل العديد من المعتقلين السياسيين، والذين يعانون من استمرار المحاكم في تجديد قرارات حبسهم الاحتياطي لفترات طويلة، غير الطلب من أحد أقاربه بأن يسعى إلى إنقاذه من محبسه، وهو ما جرى عبر أحد موظفي سكرتارية نيابة شمال الجيزة، الذي أخبره بقدرته على توزيع محمد على إحدى الدوائر القضائية التي تصدر قرارات إخلاء سبيل أكثر من غيرها فيما يعرف بـ"جلسات التجديد"، مقابل حصول السكرتير على 15 ألف جنيه مصري أي ما يوازي 840 دولارا أميركيا، وبالفعل أخلي سبيل محمد بكفالة مالية قدرها 5 آلاف جنيه (280 دولارا) في القضية رقم 24464 لسنة 2014، كما روى لـ"العربي الجديد" بعدما ما سافر خارج البلاد، مصرا على كشف الفساد الذي شاهده بعينه منذ لحظة دخوله المعتقل، والابتزار المتواصل من قبل الأجهزة الأمنية والقضائية بحق السجناء، والذين تنتشر بينهم عبارة "لازم تدفع" حتى يتمكنوا من الحصول على معاملة تلبي أقل حقوقهم الآدمية، قائلا "دفعت 10 آلاف جنيه (560 دولارا)، لموظفي قسم العجوزة، بمحافظة الجيزة، لتسهيل إجراءات إخلاء سبيلي وهذا جزء مما تم نهبه مني".

محمد ليس الوحيد الذي اضطر إلى دفع مبلغ مالي لسكرتارية النيابة، لإخلاء سيبله، إذ وثق معد التحقيق 10 حالات أخرى من الجنائيين والمعتقلين السياسيين، والذين حصلوا على إخلاء السبيل بمبالغ متفاوتة عبر تدخل سكرتارية النيابة من أجل تحديد دائرة قضائية تمنحهم القرار، وكذلك التلاعب في مستندات إحدى القضايا للحصول على حكم قضائي لصالح أحد المتقاضين، من بين تلك الحالات، القضية رقم 21 لسنة 2015 أموال عامة، إذ حصل المعيد بإحدى الجامعات إحسان حنفي وشقيقه على إخلاء سبيل من تهمة تزوير شهادات منسوبة لجامعة القاهرة وجامعات دولية، بعد 7 شهور من الحبس الاحتياطي، عبر تحديد دائرة قضائية لهما بواسطة أحد سكرتارية النيابة، وفق ما قاله إحسان لـ "العربي الجديد"، والذي حصل هو وشقيقه على البراءة في القضية وسافرا إلى الخارج بعد عام من إخلاء سبيلهما.


إخفاء الفساد

رصد معد التحقيق 14 قضية اتهم فيها سكرتارية النيابة بتلقي رشى خلال العامين الماضيين أعلنت عنها الرقابة الإدارية في وسائل الإعلام المحلية، ووقعت 5 منها في شهور مارس وأبريل ويونيو وديسمبر من عام 2017، بينما وقعت 9 قضايا فساد في شهور مارس وأبريل ويونيو ويوليو وأكتوبر وديسمبر خلال عام 2016، من بينها قضية أمين وسكرتير دائرة البيوع في محكمة الجمالية الجزئية والذي ألقي القبض عليه، عقب طلبه وتقاضيه 200 ألف جنيه (11205 دولارات) على سبيل الرشوة من أحد المتقاضين، في مقابل التلاعب في مستندات إحدى القضايا، بحسب بيان صادر عن هيئة الرقابة الإدارية في 8 فبراير/شباط الماضي.

لكن رئيس محكمة طنطا السابق المستشار محمد عوض، يرى تلك الأرقام غير معبرة بشكل كامل عن الواقع كما قال لـ"العربي الجديد"، إذ أنه لا يمكن ضبط هذه الجريمة بسهولة، لأنها عبارة عن مصلحة بين طرفين، كما أن الجهات القضائية لا تصدر نسبة الفساد بشكل دقيق داخل وزارة العدل.

وبلغ عدد سكرتارية النيابة على مستوى محافظات مصر 1750 موظفا خلال عام 2017، بينما يصل عدد العاملين بالنيابات إلى 16250 موظفا، وفقاً لما كشفه الأمين العام لنقابة العاملين بالنيابات والمحاكم ناصر عبده، والذي لفت إلى أن عدد أعضاء النقابة 37 ألف عضو.

وسكرتير النيابة، وظيفة إدرية، يقوم بمساعدة وكيل أو رئيس النيابة، ومهمته كتابة محضر التحقيق مع المجني عليهم والمتهمين والشهود، وتنفيذ قرارات رؤسائه، بحسب ما أوضحه وزير العدل السابق المستشار أحمد سليمان لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن سكرتير النيابة يتواصل مع بقية الأقسام داخل النيابة، بدءًا من رئيس قسم التحقيق الذي يرأس جميع سكرتارية النيابة، مرورا بموظف الجدول المسؤول عن تقييد مواعيد تجديد الحبس والجلسات القضائية وما انتهت إليه القضايا من أحكام، وصولا إلى كاتب القلم والذي تحفظ لديه القضايا، حسب نوعها.

ولا يستطيع سكرتير النيابة أن ينهي تحديد دائرة قضائية منفردا دون أن يشترك معه آخرون في إتمامها، خاصة رئيس قسم التحقيق (وظيفة إدارية)، لأنه المسؤول عن توزيع القضايا على الدوائر القضائية، لكن بعض القضايا الكبرى تقتضي اشتراك سكرتير النيابة مع وكلاء ورؤساء النيابة لإتمام صفقة التلاعب، كما يقول سليمان، موضحا أن عدد النيابات الكلية والجزئية في مصر 250 نيابة، وتتصدر محافظة القاهرة المرتبة الأعلى بـ 36 نيابة، تلتها محافظة الجيزة بـ 18 نيابة.

وشهدت محاكم مصر، عددا كبيرا من القضايا خلال السنوات الماضية، لا سيما عقب اعتقال آلاف المواطنين المعارضين لحكم عبدالفتاح السيسي، إذ بلغ عددهم خلال السنوات الثلاث الماضية 30.497 معتقلا، بحسب تقرير صادر في يناير/كانون الثاني الماضي عن التنسيقية المصرية للحقوق والحريات (منظمة حقوقية مصرية مستقلة)، إضافة لاتساع معدل الجريمة، إذ تصاعدت حوادث الجنح بصفة عامة وسجلت 40222 حادثة، وفق تقرير صادر في مايو/أيار من عام 2017، عن قطاع مصلحة الأمن العام التابع لوزارة الداخلية.


وسطاء الرشوة

يعمل وسطاء من المحامين في إنجاز مهمة الاتفاق مع سكرتير النيابة ما يعرضهم للتوقيف في حال كشف هويتهم، وهو ما وقع للمحامي مصطفى فهيم الذي اتهم بعرض رشوة على موظف بالمحكمة الاقتصادية في أبريل/نيسان من عام 2016 للإخلال بواجبات وظيفته بعدم إدراج القضايا التي تخص المتهم الأول بالكشف الذي يعرض على النيابة العامة لتتمكن من استئنافها، وألقي القبض عليه متلبسا، وأصدرت جنايات القاهرة على المحامي حكما بالسجن 3 سنوات، في القضية رقم 243 لسنة 2015 بحسب ما نشره الموقع الرسمي لهيئة الرقابة الإدارية بتاريخ 22 أبريل/نيسان 2016.

ويصف بعض المحامين من بينهم أحمد عبدالعاطي، والذي طلب عدم الكشف عن هويته الحقيقية وتعريفه بهذا الاسم حتى لا يتضرر من يعملون معه كما يقول، تدخله في القضية بـ"التوسط بين أهالي المحاكمين ومكاتب سكرتارية النيابة"، للاتفاق على تحديد دوائر قضائية معينة في جلسات التجديد، سيما وأن السكرتارية يرفضون في كثير من الأحيان التعامل المباشر مع أهالي المحاكمين خوفا من أن يكونوا ضمن هيئة التفتيش القضائي، أو مباحث أموال عامة أو هيئة الرقابة الإدارية، كما يوضح لـ"العربي الجديد"، لافتا إلى أن الاتفاق على المبلغ المالي تحدده طبيعة القضية، فالقضايا السياسية تبدأ أسعارها من عشرة آلاف جنيه وتصل إلى 20 ألف جنيه (1120 دولارا)، بينما القضايا الجنائية أسعارها غير محددة وأغلى من السياسية، وتختلف حسب طبيعة القضية، إذ إن القتل والمخدرات الأعلى، وهو ما عقب عليه المستشار أحمد سليمان قائلا "المحاكم سنويا تشهد حالات تورط محامين كوسطاء لتقديم رشوة لأحد السكرتارية للتلاعب في القضية الموكل عنها، والعامل الأول للقضاء على هذه الظاهرة هو الرقابة الذاتية إذ لا تستطيع إدارة التفتيش القضائي أو الأموال العامة كشف القضية إلا ببلاغ مقدم إليها".


بالدولار وليس الجنيه

فوجئ العشريني السوري علاء قويدر أثناء توقيفه على ذمة قضية رقم 24137 لسنة 2014 بتهمة انتحال صفة طبيب علاج طبيعي، بأن محاميه يخبره بأن سكرتير النيابة يطلب مالا لتحديد دائرة قضائية تمنحه إخلاء سبيل، مشيرا إلى أنه نجح في تخفيض المبلغ من 10 آلاف دولار إلى 8 آلاف دولار، كما يقول علاء مضيفا "بعد حبسي احتياطيا لمدة ثمانية أشهر ظلما، لم يكن أمامي سوى القبول رغم عدم امتلاكي للمبلغ آنذاك"، وتابع "تواصلت مع أصدقائي المقيمين في مصر لتدبير المبلغ المطلوب واعدا إياهم بتسديده عقب الخروج"، وبالفعل حصل على إخلاء سبيل بكفالة مالية قدرها 2000 جنيه (112 دولارا).

يوضح علاء، أنه غادر القاهرة مباشرة متوجها إلى تركيا، معربا عن استيائه الشديد كلما شاهد الفيديوهات التي نشرتها وزارة الداخلية المصرية على شبكة الإنترنت، لحظة القبض عليه، وأجبرته على ارتداء المعطف الأبيض للأطباء وتصويره، رغم أنه كان يعمل سكرتيرا في المركز الطبي على حد قوله.

وتعاني مصر من فساد إداري ومالي كبيرين، بحسب مؤشر مدركات الفساد "CPI" لعام 2017 والصادر في فبراير الماضي عن منظمة الشفافية الدولية التي تتخذ من برلين مقراً لها، والذي صنف مصر في المرتبة 117 من بين 180 دولة تناولها التقرير بسبب تفشي الفساد في المؤسسات الحكومية.

العقوبات

ينص قانون العقوبات، رقم 74 لسنة 1936 في المادة 103 منه بأن عقوبة الرشوة تصل حتى السجن المشدد، والعزل من الوظيفة وغرامة ضعف قيمة ما أخذ المرتشي في حالة ثبوت الإدانة، لكن توجد حالة واحدة فقط لإعفاء الراشي من العقوبة، كما يقول وليد عبد الجواد أستاذ القانون العام في كلية الحقوق جامعة قناة السويس، وهي الإبلاغ عن الواقعة ووقوع ضرر عليه في حال عدم تقديمها، كما أن الوسيط بين الراشي والمرتشي يعاقب عقوبة الأصل.

بينما حددت المادة 106 من القانون رقم 74 على أن كل من اقترف جريمة الرشوة يعتبر أنه ارتكب جنحة، وعقوبتها الحبس لمدة ثلاث سنوات أو غرامة مالية 100 جنيه، لكن عبد الجواد يرى أن عقوبة الرشوة وفقا للمادة 106 لا تتناسب مع الجريمة، بحيث أن الثقة والأمانة اللتين يمنحهما القانون والمجتمع للموظفين الحكومين تتطلبان إنزال عقوبات أشد.

وبات المحامون لا يستطيعون الحصول على أوراق القضايا الموكلين عنها بدون دفع رشى يصفها سكرتارية النيابة بـ"الإكرامية"، وهو ما يمكن اعتباره ضمن جرائم الرشوة في بعض الأحيان، بحسب رئيس محكمة طنطا الأسبق، والذي أعرب عن أسفه بأن الأولوية في التعيينات في المحاكم والنيابات في مصر، لأبناء العاملين أو من لديه واسطة قضائية، رغم الإعلان عن عن تلك الوظائف في الصحف الحكومية، وهو ما يكرس من تلك المنظومة.

رد نقابة العاملين في النيابات

يقر مصدر مسؤول في مجلس النقابة العامة للعاملين بنيابات ومحاكم القاهرة، بما رصده معد التحقيق، لكنه رفض تعميم الاتهامات على كافة السكرتارية على مستوى المحافظات كما يقول، مشيرا إلى أن الفاسدين ومن يقبلون الرشى من سكرتارية النيابة بتعاونهم مع آخرين من محامين أو وكلاء نيابة يعللون دائما الأمر بارتفاع الأسعار وضيق الحال وقلة الرواتب، وهو ما يعلق عليه المستشار أحمد مكي، وزير العدل السابق قائلا "ما يظهر للعلن من قضايا فساد داخل النيابات والمحاكم بشكل عام، يعتبر قليلا جدا، بعض سكرتارية النيابة، باتوا يحصلون على رشوة شبه يومية قليلة من أجل توفير أوراق القضايا للمحامين، مستغلين قدرتهم على الاطلاع على ملفات القضايا".